مدخل إلى الجزء الخامس :
«.•°رفقاً بقلبي أيتها الاقدار...فإن قلبي ضعيف لا يتحمل الاخطار ،،
" أين أبي ؟ " كانت أول كلماتي التي أنطق بها بعد أن أستعدتُ وعيّ ، كررت السؤال مرا ً و تكرارا ً ، و ما من مجيب ، استفزنس الصمتُ المطبق من حولي ، و نحيب والدتي ، رحتُ ألطم وجهي من فوق الشاش و الرباطات التي تحيط بكامل رأسي و أنا أصرخ :-
" أين أبي ...؟ "
رد عليّ صوتٌ مبحوح :- " أبوكي إستشهد . . ! "
كانت هذه الكلمات بمثابة القنبلة التي فجرتني ، انقبض قلبي و سرت في بدي الحمى ، و ألجمت لساني كا ما مر على قلب بشر ٍ من مشاعر استغراب و تعجب و تكذيب !
صرجت بعدها بفجع الفراق :- " أين أنت يا أبي ؟؟ أين أنت ؟ أرجوك أجبني و لا تدعني أتجرع حسرتك ... أين أنت ؟ إهمس قل أي شئ ، أصرخ إن شئت في وجهي وبخني . . . قل أي شئ !! آآآآآآآآه يا أبي أين أنت ؟ لا أدري أرحلت عني أم أنهُ الموت فجعني !! أم أن ابن صهيون سلبك مني !! أين أنت ؟ أجبني يا شمعة عمري ...... "
ما شعرت إلا بمحمد أخي الكبير يحتضنني كوالد ، و قال و الدموع تخنقهُ :- " الصبر . . الصبر يا أميرة . . . أبوكي شهيد و الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون "
ثم أردف قائلا ً و هو يرتب على كتفي :- " و متى كانت نساء فلسطين تبكي الشهداء ؟ "
" أتبكين الشهيد يا أميرة و هو يتمنى أن يحيا و يموت و يحيا ويموت من حلاوتها ، أنهُ يتمناها لنا و أنتي تبكيه ، رحم الله والدكي ، كفي عن العوي أنت إبنة شهيد . . ! "
" كــــلا . . أنا أبكي لأني لم أستشهد حتى الأن ؛ المفترض أن أموت أنا لا أبي ، هو مات بسببي . . . لن أسامح نفسي أنا سبب و المفترض أن تكون الميتت لي ! "
صاح محمد بأعلى صوته :- " الصبر . . الصبر ياااااااا الله الصبر ! "
فإذ بصوت أخي أحمد ( رقم 2 بين اخوتي ) يلهث و يقول :- " إلحقوها . . . إلحقوها !! "
و لم أشعر إلا بألم الإبرة تخترقني و تأخذني في سبات ، و مر وقت قصير قبل أن أفيق من صدمتي ، و أستوعب وفاة والدي أمرا ً واقعا ً ، بعد ذلك إستلمت خبر فقدان عيني اليسرى التي إنطفئ سراجها بنفس هادئة جدا ً .
أخذوني إلى بيت جدي ، فنحن بعد اليوم لا بيت لنا ، مجرد كلمة قلتها :- " كيف حالك يا سيد ؟ " و نزلت لأقبل يديه ، فأمسك بيدي شاكيا ً معاتبا ً :- " و لما لا تقولي يا سيدي أبو أمير كعادتكي ؟ "
و أنا من داخلي أرجوهُ ألا يبكي إنني بالإضافة إلى حالي ، لا أحتمل دموع رجل تجاوز الثمانيين ، فما كان مني إلا أن أشاركهُ البكاء !!
كانت دموعهُ غزيرة ، تسلك طريقها سريعا ً بين تجاعيد وجهه ، و شعيرات ذقنه غير المرتبة ، فوضعت يدي فوق كفية أرتب عليهما تارة ، و أقلبلهما تارة ، فأسرع و أمسك بهما ، و قال أرجوكي دعيهما قليلا ً ، فهذه طريقة أبوكي عندما كان يجدني حزينا ً على فراق جدتكي ، رحمهما الله !
فأخذت أرتب على كفيه ، فإزداد بكاءً و هو يقول :- " من يمسح دموعي بعدك يا أميــــــر ؟يا ليت ساعتي سبقت ساعتك . . . يا ليت ساعتي سبقت ساعتك ! "
بتُ ليلتها و الدموع تحرق وجهي ، و في اليوم التالي طلبتُ من أسامة و محمد أن يأخذاني لقبر و الدي ، جلستُ أمام القبر أناجيه :- " ليتك يا أبي تعود لحياتي يوما ً واحدا ً لأضمك ، و أقبل يديك ، و أطيل النظر فيك حتى أشبع من تفاصيل وجهك ، كنت النور في حياتي ، و بعدك غابت شمسي ، و إظلمت أيامي ، ليلا ً حالك حتى في أوج بزوغ الشمس أمست صباحاتي !"
إلا أنه لزم صمت القبور !!
كان أسامة جاثما ً خلفي أمام قبر أخوه المقابل لقبر أبي ، و محمد حائرا ً بين مدامعنا ، يمسح دمعة من و يرتب على كتف من ؟ يردد :- " الصبر . . الصبر !! "
وقف محمد و مسح دموعهُ بكفه و قال :- " بكل تأكيد الموت يورث الصبر . . ! "
رتب محمد على كتفه و قال :- " عند الشدائد تتميز معادن الرجال "
غادرنا مودعين القبور و سكانها و القلوب تنفدر لفراقهم ، إلى ركام حيّنا المقصوف ، في الطريق قابلنا بقية إخوتي ، و ذهبنا سويا ً و حال لاحت ركام منازل الحي ، بدء كل واحد يقص حكايتهُ في ذلك اليوم ، في لحظة عادت ذاكرتي للوراء و مرت أمامي سريعا ً صوتا ً و صورة ، بينما طــه أصغر إخوتي يقص تفاصيل ذلك اليوم بالتفصيل الممل .
و فجأة وقف أمام كومة كتل إسمنتية و قال :- " هذا بيت مجاهد ، كنت هنا ساعة قصف منزلنا "
قلت لهُ بتعجب :- " ألم تكن في المنزل حينها ؟ "
فقال :- " لا لقد خرجت قبل القصب بوقت قصير لأشتري الشمع قبل أن ينفذ "
:- " تشتري الشمع أثناء القصف !!!! "
قال ضاحكا ً :- " كنتُ أتحجج في الشمع ، ما احتملت المكوث في المنزل للحظة مختبئ كالجردان !! ، قبل أن أخرج معني أبي من الجروج و قال :- ( الدنيا حرب لعل الليلة هي ليلتنا الأخيرة دعونا مجتمعين فإما نحيا سويا ً و إما نموت سويا ً ، الموت قدرنا و لا مفر منه ، أخر كلماته رحمه الله كان يشعر بالموت يدنوا منه "
و عاد ليكمل :- " كان القصف ناحية منزلنا ، فأخذت نفسي و حثثتُ خطواتي نحوكم ، غير مبالي بالقصف ، و في بالي فكرة واحدة إما أن نحيا كلنا و الحال على ما نحن عليه ، و إما أنموت سويا ً، و كلنا في سبيل الله و الوطن ، فلا يتجرع أحدنا حسرة الأخر ، ولما صرت على بعد أمتار من البيت عثرت على أمي و محمود ، ابتلعتُ ريقي و سألت عن البقية ، و قبل أن أسمع الإجابة ، إرتجت الأرض من تحت أقدامنا و دوى صوت انفجار لم أسمع لهُ من قبل مثيلا ً ، و علة الحي بأسره سحابة من غبار ، و من عيونهم أدركت أن البقية لا يزالون في البيت قلت لمحمود :- أمن أنت أمي ، و أنا أسرعت جريا ً نحو المنزل ، كان الناس على أطراف الشوارع المؤدية إليه ، منعوني من التقدم ، و بقيت أقاومهم لساعات حتى توقف القصف ، و حين وصلت المنزل كان قد خوى على عروشيه ، و أمسى هشيما ً .
قاطعتهُ قائلة :- " محمد بطبيعة الحال كان في رام الله و محمود مع أمي ، و لكن أنت يا أحمد أين كنت ؟ "
قال :- " أنا خرجت من المنزل مع محمود و أمي ، طلبت من محمود أن يذهب مع أمي ، و بقيت أنا انتظركما أنتي و أبي تحت المنزل ، و حين اشتد القصف إختبئت تحت درج منزل أبو سامر المقابل لباب منزلنا أنتظر خروجكما ، و رأيت البيت و هو ينهار طوبة طوبة و أعد القذائف التي تسقط عليه قذيفة قذيفة ، و أنتظر خرجكما حتى أغشي علي ، و إستيقظت في المستشفى !! "
فقاطع محمد الجميع قائلا ً :- " رحم الله والدكم يكفي "
ثم أخذ نفسا ً عميقا ً و أكمل جملتهُ :- " تنذكر و ما تنعاد ! "
و أخيرا ً و صلنا إلى ركام منزلنا المقصوف :- " هنا كنت جائمة بين الحياة و الموت ، و من يصدق أن أخرج من تحت هذه الكتل الإسمنتية حية ؟ "
فإذ بــ طـــة يقول :- " بعد أخر قذيفة رحتُ أنبش بين الكتل الإسمنتية و الناس من خلفي بالفؤوس ، وجدوكي و كنتي حية على قيد الحياة ، أخذوكي بالإسعاف إلى المشفى ، و أكملت أنا البحث ، فأخبروني أنهم وجدوا أحمد أيضا ً حيّ و معافى لكنهُ مغشى عليه و نقلوهُ إلى المشفى ، و أكملتُ البحث عن أبي على أمل أن أجدهُ كما وجدتكم أحياءً ، و على بعد نصف متر مني رأيتُ الناس ينتشلون جثمانا ً و يسيرون به نحوي ، قلت في نفسي :- هذا أبي ، إنهُ و الله أبي ! و لما وصلوا بها إلي كان أبي بشحمه و لحمه ، وضعوهُ أمامي محطم الرأس مهشم العظام صوتهُ لا تفارق عيني للحظة في اليقظة أو الحلم ! "
غلبتهُ دموعهُ فشقت طريقها على وجهه بين شعيرات لحيتهُ الطويلة فتلقفتها يديه ، قام محمد كأب إليه و أخذ رأسه إلى صدره ، و ضغط عليه وقال وهو يرتب عليه :- " كان والدك رجلا ً عاش رجلا ً و كذلك مات رجمهُ الله و جمعنا و إياه في الفردوس الأعلى "
سكت قليلا ً ثم قال :- " وا آسفــــا على عاداتنا إننا نجتر الأحزان ، نعيد و نزيد فيها ، حتى ترسخت في رؤوسنا ، و تلااصت بها جدران نفوسنا ، فأصبحنا بالتالي نطل على الأخرين بحديث الهموم و نعزف لهم على الناي الحزين ، ليزداد المتوجع وجعا ً ، كفاكم رحم الله والدكم . . . ! "
كفكف على الفور الجميع دموعهم ، و سرنا راحلين عن المنزل الذي احتوانا سنين طوال بعد أن هرس ركامهُ عظام والدنا و كأننا نعاقبهُ ، و نحن نسير مودعين المكان بعيون ٍ دامعة ، نظرت ماليا بالعين التي بقيت لدي إلى المنازل التي حولها القصف هشيما ، و الشوارع التي إخفى معالمها ، قبل شهر من الأن كان المكان مختلفا كليا !
إنها مجزرة رهيبة خُطط لها ، و نفذت بدقة متناهية ، بعد أن كان مدينة زاخرة بالحياة ، يخرج أي مواطن يدخلهُ بإنطباع وحيد بالقول أن المجزرة نجحت و نجح من خططوا لها ليحولنها إلى مدينة أشباح ، من دخلها يعيش حالة من الخوف و الترقب ، و من يسكنها يعيش حالة من العرب ، و من يخرج منها لا يفكر بالعودة لها لما تعرض لهُ من استفزاز و آلام و إعتداء منظم، ومن لم يخرج بالترغيب خرج بالترهيب .
تسائلت في نفسي :- " هل يعلم هذا المتسلط مقدار مأساتي التي خلفها عندما مزق منزلي ، و حرمني والدي ، و أطفئ سراج عيني ، و ألقى بي في دياجر الظلام في بحر لجي يغشاهُ موجٌ ، ومن فوق الموج سحاب !! "
وكم هم الذين تفوق مأسيهم مأساتي عشرات الأضعاف.
أدعوا الله لهم بالنصر !
و بعد مرور الأربعين على استشهاد والدي ، أصرت أمي على أسامة أن يحدد موعد الزفاف في أسرع موعد
:- " حملي ثقيل ، و قلبي عليل ، و أد أن أطمئن على ابنتي الوحيدة قبل أن تغفل عيني "
حاولتُ جاهدة أن أثنيهما عن ذلك ألا أنها رغبة أمي
و إرتدت أميرة الفستان الأبيض و سارت مع عريسها في هدوء ، و قبل أن ينتهي الشهر الأول من زواجها ، عاد الموت ليفرد شراعهُ و شاحا ً لهدب عينيها و ودعت جدها أبو أمير .
كانت كل تلك الشدائد عظيمة عليها ، فقد تجرعت من بئر الأحزان حتى بلغت الشيب في شبابها ، و كانت مكافأتها من الله عن أيام إبتلاءها ، و ليالي صبرها زوجا ً محبا ً عطوفا ً رؤوفا ً كريما ً حليما ً ، فما كان منها إلا أن تركت عملها و تفرغت لهُ تنسق البيت ، و تجهز الطعام ، و تكوي الملابس ، و ترتب الأوراق ، و لم تصبح لهُ زوجة فقط بل تعدت ذلك لتكون سكرتيرة أيضا ً ، و كم سجدت لله شاكرة فضل عطيتهُ سبحانهُ و تعالى فالزوج الصالح نعمة يشكر عليها الخالق الذي يقدر الطيبون للطيبات ، تلك هي حالة الحب التي عاشها أسامة و أميرةو التي أثمرت عن الدلوعة ( فلسطين ) قمحية اللون عسلية العيون .
صاح محمد بأعلى صوته :- " الصبر . . الصبر ياااااااا الله الصبر ! "
فإذ بصوت أخي أحمد ( رقم 2 بين اخوتي ) يلهث و يقول :- " إلحقوها . . . إلحقوها !! "
و لم أشعر إلا بألم الإبرة تخترقني و تأخذني في سبات ، و مر وقت قصير قبل أن أفيق من صدمتي ، و أستوعب وفاة والدي أمرا ً واقعا ً ، بعد ذلك إستلمت خبر فقدان عيني اليسرى التي إنطفئ سراجها بنفس هادئة جدا ً .
أخذوني إلى بيت جدي ، فنحن بعد اليوم لا بيت لنا ، مجرد كلمة قلتها :- " كيف حالك يا سيد ؟ " و نزلت لأقبل يديه ، فأمسك بيدي شاكيا ً معاتبا ً :- " و لما لا تقولي يا سيدي أبو أمير كعادتكي ؟ "
" هل تتعاملين معي على أنه قد مات ؟ "
لم أستطع قول كلمة واحد " إني نذرت للرحمن صوما ً و لن أكولم اليوم إنسيا " و أنا من داخلي أرجوهُ ألا يبكي إنني بالإضافة إلى حالي ، لا أحتمل دموع رجل تجاوز الثمانيين ، فما كان مني إلا أن أشاركهُ البكاء !!
كانت دموعهُ غزيرة ، تسلك طريقها سريعا ً بين تجاعيد وجهه ، و شعيرات ذقنه غير المرتبة ، فوضعت يدي فوق كفية أرتب عليهما تارة ، و أقلبلهما تارة ، فأسرع و أمسك بهما ، و قال أرجوكي دعيهما قليلا ً ، فهذه طريقة أبوكي عندما كان يجدني حزينا ً على فراق جدتكي ، رحمهما الله !
فأخذت أرتب على كفيه ، فإزداد بكاءً و هو يقول :- " من يمسح دموعي بعدك يا أميــــــر ؟يا ليت ساعتي سبقت ساعتك . . . يا ليت ساعتي سبقت ساعتك ! "
بتُ ليلتها و الدموع تحرق وجهي ، و في اليوم التالي طلبتُ من أسامة و محمد أن يأخذاني لقبر و الدي ، جلستُ أمام القبر أناجيه :- " ليتك يا أبي تعود لحياتي يوما ً واحدا ً لأضمك ، و أقبل يديك ، و أطيل النظر فيك حتى أشبع من تفاصيل وجهك ، كنت النور في حياتي ، و بعدك غابت شمسي ، و إظلمت أيامي ، ليلا ً حالك حتى في أوج بزوغ الشمس أمست صباحاتي !"
إلا أنه لزم صمت القبور !!
كان أسامة جاثما ً خلفي أمام قبر أخوه المقابل لقبر أبي ، و محمد حائرا ً بين مدامعنا ، يمسح دمعة من و يرتب على كتف من ؟ يردد :- " الصبر . . الصبر !! "
وقف محمد و مسح دموعهُ بكفه و قال :- " بكل تأكيد الموت يورث الصبر . . ! "
رتب محمد على كتفه و قال :- " عند الشدائد تتميز معادن الرجال "
غادرنا مودعين القبور و سكانها و القلوب تنفدر لفراقهم ، إلى ركام حيّنا المقصوف ، في الطريق قابلنا بقية إخوتي ، و ذهبنا سويا ً و حال لاحت ركام منازل الحي ، بدء كل واحد يقص حكايتهُ في ذلك اليوم ، في لحظة عادت ذاكرتي للوراء و مرت أمامي سريعا ً صوتا ً و صورة ، بينما طــه أصغر إخوتي يقص تفاصيل ذلك اليوم بالتفصيل الممل .
و فجأة وقف أمام كومة كتل إسمنتية و قال :- " هذا بيت مجاهد ، كنت هنا ساعة قصف منزلنا "
قلت لهُ بتعجب :- " ألم تكن في المنزل حينها ؟ "
فقال :- " لا لقد خرجت قبل القصب بوقت قصير لأشتري الشمع قبل أن ينفذ "
:- " تشتري الشمع أثناء القصف !!!! "
قال ضاحكا ً :- " كنتُ أتحجج في الشمع ، ما احتملت المكوث في المنزل للحظة مختبئ كالجردان !! ، قبل أن أخرج معني أبي من الجروج و قال :- ( الدنيا حرب لعل الليلة هي ليلتنا الأخيرة دعونا مجتمعين فإما نحيا سويا ً و إما نموت سويا ً ، الموت قدرنا و لا مفر منه ، أخر كلماته رحمه الله كان يشعر بالموت يدنوا منه "
و عاد ليكمل :- " كان القصف ناحية منزلنا ، فأخذت نفسي و حثثتُ خطواتي نحوكم ، غير مبالي بالقصف ، و في بالي فكرة واحدة إما أن نحيا كلنا و الحال على ما نحن عليه ، و إما أنموت سويا ً، و كلنا في سبيل الله و الوطن ، فلا يتجرع أحدنا حسرة الأخر ، ولما صرت على بعد أمتار من البيت عثرت على أمي و محمود ، ابتلعتُ ريقي و سألت عن البقية ، و قبل أن أسمع الإجابة ، إرتجت الأرض من تحت أقدامنا و دوى صوت انفجار لم أسمع لهُ من قبل مثيلا ً ، و علة الحي بأسره سحابة من غبار ، و من عيونهم أدركت أن البقية لا يزالون في البيت قلت لمحمود :- أمن أنت أمي ، و أنا أسرعت جريا ً نحو المنزل ، كان الناس على أطراف الشوارع المؤدية إليه ، منعوني من التقدم ، و بقيت أقاومهم لساعات حتى توقف القصف ، و حين وصلت المنزل كان قد خوى على عروشيه ، و أمسى هشيما ً .
قاطعتهُ قائلة :- " محمد بطبيعة الحال كان في رام الله و محمود مع أمي ، و لكن أنت يا أحمد أين كنت ؟ "
قال :- " أنا خرجت من المنزل مع محمود و أمي ، طلبت من محمود أن يذهب مع أمي ، و بقيت أنا انتظركما أنتي و أبي تحت المنزل ، و حين اشتد القصف إختبئت تحت درج منزل أبو سامر المقابل لباب منزلنا أنتظر خروجكما ، و رأيت البيت و هو ينهار طوبة طوبة و أعد القذائف التي تسقط عليه قذيفة قذيفة ، و أنتظر خرجكما حتى أغشي علي ، و إستيقظت في المستشفى !! "
فقاطع محمد الجميع قائلا ً :- " رحم الله والدكم يكفي "
ثم أخذ نفسا ً عميقا ً و أكمل جملتهُ :- " تنذكر و ما تنعاد ! "
و أخيرا ً و صلنا إلى ركام منزلنا المقصوف :- " هنا كنت جائمة بين الحياة و الموت ، و من يصدق أن أخرج من تحت هذه الكتل الإسمنتية حية ؟ "
فإذ بــ طـــة يقول :- " بعد أخر قذيفة رحتُ أنبش بين الكتل الإسمنتية و الناس من خلفي بالفؤوس ، وجدوكي و كنتي حية على قيد الحياة ، أخذوكي بالإسعاف إلى المشفى ، و أكملت أنا البحث ، فأخبروني أنهم وجدوا أحمد أيضا ً حيّ و معافى لكنهُ مغشى عليه و نقلوهُ إلى المشفى ، و أكملتُ البحث عن أبي على أمل أن أجدهُ كما وجدتكم أحياءً ، و على بعد نصف متر مني رأيتُ الناس ينتشلون جثمانا ً و يسيرون به نحوي ، قلت في نفسي :- هذا أبي ، إنهُ و الله أبي ! و لما وصلوا بها إلي كان أبي بشحمه و لحمه ، وضعوهُ أمامي محطم الرأس مهشم العظام صوتهُ لا تفارق عيني للحظة في اليقظة أو الحلم ! "
غلبتهُ دموعهُ فشقت طريقها على وجهه بين شعيرات لحيتهُ الطويلة فتلقفتها يديه ، قام محمد كأب إليه و أخذ رأسه إلى صدره ، و ضغط عليه وقال وهو يرتب عليه :- " كان والدك رجلا ً عاش رجلا ً و كذلك مات رجمهُ الله و جمعنا و إياه في الفردوس الأعلى "
سكت قليلا ً ثم قال :- " وا آسفــــا على عاداتنا إننا نجتر الأحزان ، نعيد و نزيد فيها ، حتى ترسخت في رؤوسنا ، و تلااصت بها جدران نفوسنا ، فأصبحنا بالتالي نطل على الأخرين بحديث الهموم و نعزف لهم على الناي الحزين ، ليزداد المتوجع وجعا ً ، كفاكم رحم الله والدكم . . . ! "
كفكف على الفور الجميع دموعهم ، و سرنا راحلين عن المنزل الذي احتوانا سنين طوال بعد أن هرس ركامهُ عظام والدنا و كأننا نعاقبهُ ، و نحن نسير مودعين المكان بعيون ٍ دامعة ، نظرت ماليا بالعين التي بقيت لدي إلى المنازل التي حولها القصف هشيما ، و الشوارع التي إخفى معالمها ، قبل شهر من الأن كان المكان مختلفا كليا !
إنها مجزرة رهيبة خُطط لها ، و نفذت بدقة متناهية ، بعد أن كان مدينة زاخرة بالحياة ، يخرج أي مواطن يدخلهُ بإنطباع وحيد بالقول أن المجزرة نجحت و نجح من خططوا لها ليحولنها إلى مدينة أشباح ، من دخلها يعيش حالة من الخوف و الترقب ، و من يسكنها يعيش حالة من العرب ، و من يخرج منها لا يفكر بالعودة لها لما تعرض لهُ من استفزاز و آلام و إعتداء منظم، ومن لم يخرج بالترغيب خرج بالترهيب .
تسائلت في نفسي :- " هل يعلم هذا المتسلط مقدار مأساتي التي خلفها عندما مزق منزلي ، و حرمني والدي ، و أطفئ سراج عيني ، و ألقى بي في دياجر الظلام في بحر لجي يغشاهُ موجٌ ، ومن فوق الموج سحاب !! "
وكم هم الذين تفوق مأسيهم مأساتي عشرات الأضعاف.
أدعوا الله لهم بالنصر !
و بعد مرور الأربعين على استشهاد والدي ، أصرت أمي على أسامة أن يحدد موعد الزفاف في أسرع موعد
:- " حملي ثقيل ، و قلبي عليل ، و أد أن أطمئن على ابنتي الوحيدة قبل أن تغفل عيني "
حاولتُ جاهدة أن أثنيهما عن ذلك ألا أنها رغبة أمي
و إرتدت أميرة الفستان الأبيض و سارت مع عريسها في هدوء ، و قبل أن ينتهي الشهر الأول من زواجها ، عاد الموت ليفرد شراعهُ و شاحا ً لهدب عينيها و ودعت جدها أبو أمير .
كانت كل تلك الشدائد عظيمة عليها ، فقد تجرعت من بئر الأحزان حتى بلغت الشيب في شبابها ، و كانت مكافأتها من الله عن أيام إبتلاءها ، و ليالي صبرها زوجا ً محبا ً عطوفا ً رؤوفا ً كريما ً حليما ً ، فما كان منها إلا أن تركت عملها و تفرغت لهُ تنسق البيت ، و تجهز الطعام ، و تكوي الملابس ، و ترتب الأوراق ، و لم تصبح لهُ زوجة فقط بل تعدت ذلك لتكون سكرتيرة أيضا ً ، و كم سجدت لله شاكرة فضل عطيتهُ سبحانهُ و تعالى فالزوج الصالح نعمة يشكر عليها الخالق الذي يقدر الطيبون للطيبات ، تلك هي حالة الحب التي عاشها أسامة و أميرةو التي أثمرت عن الدلوعة ( فلسطين ) قمحية اللون عسلية العيون .
- النهاية