مدخل الجزء الثالث
{ إن الإنسان قبل الحب شئ و عند الحب كل شئ و بعد الحب شئ ،،
بدتْ لي كلماتها باردة ، و بلا معني ، فاجأني أسلوبها الفظ ، فيما كنت أنا أتحدث معها بلطف ، و توسل ، حملقتُ فيها مصدوما ً بها ، و قد أُلْجِم لساني عن النطق مباشرة ولم أشعر إلا بقطرات العرق تسيل على جسمي و بالحرارة تنبعثُ منهُ و النار تتأجج في صدري ، إذ أن أذنايّ لم تسمعا إنما قلبي الذي اهتز بعنف بعدما قالت . . !
ألتقطتُ بعض أنفاسي و بصوتٍ مبحوح ، انجرف كلامي كالسيل العارم يأبى الوقوف عند أي شئ .. !
"لن أطلقكي و لن ينطق لساني بهذه الكلمة أبدا ً ، الموت أهون علي ّ من التفريط فيكي"
انبعثت على وجهها تغيرات مخيفة فجأة ، بعدها صرخت مرة ثانية في وجهي
’’ لو سمحت طلقني . . ! ‘‘
شعرتْ بالإختناق ، فالهواء من حولي لم يكن كافيا ً لملئ رئتي ، سددتُ بضربة إلى الطاولة الخشبية أمامي كدتُ أحطمها ، و أوليتها ظهري ، و سرتُ متجها ً نحو مدخل المنزل لأغادر ، صونا ً لما تبقى من ماء الوجه . . !
ربما ارتطمتُ و أنا خارج بجدار ، أو تعثرتُ بعتبة ، أو اتزلفتُ أرضا ً ، لم أكن أرى الطريق أماي ، لم أرى أو أسمع شئ غير ذاك المشهد . . !
و هي تـُحملق فيّ قائلة و باشمئزاز :- ’’ لو سمحتْ طلقني . . ! ‘‘
و قفت عند أسفل عتبات السلم خارج المنزل مجهدا ً حد الصم ، و العمى ، و الخرس ، و الشلل ، أستجدي الهواء ، مأخذوا ً لهول ما سمعتُ منها ، مشلول الإرادة ، لا أعلم إلى أين أذهب . . !
الصداع و الدوار و الأفكار الحائرة المتناثرة ، و كلماتها الأخيرة ، كلها اجتمعت سوية ، و أفقدتني القدرة على التفكير . . !
وضعتْ يدي على رأسي و ضغطتُ بشدة علّ الألم يرحم رأسي قليلا ً . . !
و بالرغم من كل شئ و أي شئ ، رفعتُ بيدي إلى السماء و شكوت إلى الله حالي و قلة حيلتي ، و تضرعتُهُ و رجوتهُ مرارا ً و تكرارا ً ، أن يجد لي من هذه الكربة العظيمة مخرجا ً من حيث لا أحتسب عاجلا ً غير أجلا ً . .!
لملمتُ على عجل شتاتي ، و سرتُ مترنحا ً دون جدوى أو اتزان ، متجها ً نحو منزلي ؛ وصلتُ إلى البيت ، و كان يغط في سكون ، مباشرة إتجهتْ إلى غرفتي ، و ألقيتُ بنفسي على السرير ، و كأنسان بعيدا ً عن كل الإعتبارات تصرفتْ على سجيتي ، و أطلقتُ العنان لدموعي . . !
أحببتها من كل قلبي بمجرد أن رأيتها، فقد بهرتني بجمال طلعتها و طلتها ، و إنفراجة وجهها ، و بشاشة و روعة بسمتها الحيّية ، و سحرها ، كنت كلما نظرتُ إليها أمعنتُ النظر فيها أكثر و أكثر ، ظننتها طوال وقتي من حوريات الجنة ، تتحرك كالفراشة ، جميلة كالوردة ، ريحها طيب ، و قدها رشيق ، و تفاصيل وجهها رائعة ، تتحدث همسا ً ، غاية في الخلق و الإلتزام الديني ، تختزن في نفسها كل مقومات الجمال ، شكلا ً و روحا ً ؛ رشحها لي هذه الفتاة قريب لي يسكن بجوارهم ، فدخلت قلبي من أول نظرة . . !
أميرة هذا اسمها الحقيقي ، اسمها ، و رسمها ، و وصفها ، إذا قلت أنني لم أشاهد نظيرها بين النساء فصدقوني ، و إن تلفظتْ بشئ يؤكد جنوني بها فلا تلوموني ، أحبها بكل لغات الأرض ، و لن أحب سواها ، رغم أنها و يا أسفي لم تعطني فرصة لأصلح من عيوبي التي لم تعجبها فيّ ، و جعلتها تنفر مني ، و إن لم تصرح بها عيانا ً بيانا ً . . !
أقسمت لها مراراً و تكرارا ً أني لا أطيق الحياة بدونها ، و أن من دونها تصبح الدنيا بلا معنى ، و لا حياة فيها ؛ أحاول يوميا ً الإتصال بها ، تعرف صوتي و لا تدعني إلا أن أقول ( آلـــــو ) ، فترد مثلي و تقول :- ( آلــــــو ) ثو تقفل الهاتف . . !
أكاد أدفن نفسي بداخلي ، و أتقوقع فلا أصير بشرا ً ، يكاد يذهب العقل عني فلا أجد من يسعفني . . !
قولوا معي :- ’’ عودي يا أميرة . . ‘‘
و الله يا إخوان و ما لكم علي حلفان . . !! يكاد قلبي ينفطر لفراقها ، و دقاته ترميني بالطوب و الحجارة ، أخبروها أني سأنفذ لها رغباتها و طلباتها و أحلامها ، و سأكون رهن أمرها و طوع يديها . . !
سأكمل نقصي و أصلح عيوبي و أرتق رقعي !!
حاولت عبثا ً في تلك الليلة النوم ، لكن عيني أبت إلا السهر ، و لم أفعل شئ سوى التفكير بما حدث ؛ واقفة ً على قدميّ أمام النافذة أراقب هطول المطر.
و حال تعبت ، و لم يبقى لدي عصبا ً و احدا ً يحملني ، و ما عدتُ أستطيع الوقوف ، أجبرتُ نفسي على ملازمة السرير ، و أوهمتُ نفسي أني نائمة ، و عبثا ً حاولت إبعاد ما حدث هذه الليلة عن أحلامي و مخيلتي ، تفاقم في رأسي الصداع ، و الشعور بعذاب الضمير لما بدر مني من . . !
فلم أحتمل المكوث في فراشي أكثر ، و بقيت أقطع الغرفة ذهابا ً و إيابا ً ، و أضرب قبضة كفي اليمنى في كف يدي اليسرى طوال الليل ، و الأفكار تعبث برأسي المتصدع ؛ فإذ بحبات المطر تقرع زجاج نافذتي من جديد ، و قفت أمام النافذة ، متكئة على الجدار ، أعد حبات المطر التي غادرت أعالي السماء ، إلى مثواها الأخير ، و أراقب الريح العاصفة ، و استمع بشغف إلى صوتها الثائر . . !
و حين خرست كل الأصوات ، و لج المكان بالصمت ، جلست إلى السرير ، ليس لدي ما أفعلهُ ، غير محاولاتي الفاشلة في ترويض الأفكار داخل جمجمتي و إخمادها . . !
فتحت المذياع المحاذي لسريري ، انبعثتْ منهُ موسيقى حزينة ، قلبت المحطة بحثا ً عن محطة أخرى لعل و عسى هناك ما يفلج الصدر ، فلم أجد ما يروق لي ، أغلقت المذياع و عدتُ لمحاولاتي الفاشلة في إستجداء النوم . . !
رحت أفكر في حبات المطر متحاشية ً التفكير في ذاك المشهد ، تسألت في نفسي :-
’’ أهي الحماقة أم المجازفة من دفعت حبات المطر لـ أن تترك مكانها في السماء و تسقط إلى مثواها الأخير تحت الأقدام . . ! ‘‘
في الحال جف ريقي ، و تصلبت عروقي ، ابتلعتهُ و ابتلعتهُ ، و اجتثثتُ جثتي و عاودتُ فتح المذياع مرة ً أخرى ، ليتصدى لحالت الصمت الرهيبة التي تعج بالمكان من حولي ، فانطلق صوت " فيروز " :- ’’ بترجع عراسي رغم العيال و الناس ،، إنتا الاساسي و بحبك بالأساس ،، بحبك أنت ملا أنت ... ‘‘
غمرني صوتها المخملي و أخذني بعيدا ً لأيام خلت ، ينخلع فيها القلب آلاف المرات ، حيث استكنتُ لذكريات ، و استسلمت للماضي بكل ما فية من آلام مبرحة . . !
شعرتْ بصوتٍ يخترق زجاج غرفتي داخلا ً للداخل ، إنهُ صوت المآذن تنادي للصلاة ، للحظة شعرت و كأن المآذن تنادي هذه الليلة لي وحدي ، نهضت بشوق ٍ لأن ألقى وجه الله ؛ توضأت و اتجهت بإتجاه القبلة لألقى وجهه تعالى ،، تجردت من حولي ، و قوتي ، و استكنت بين يدي الله جل جلاله و عظم سلطانه باكية ؛ أشكو إليه إليه حالي و هواني على نفسي . . !
أؤمن بأن المساحة الفاصلة بين السماء و الأرض ، مجرد لحظة خشوع بين يدي الله ، تعود بعدها لفراشك ، و ثقتك بالله تزرع فيك أملا ً ، بأن غدا ً سيكون أجمل من اليوم الذي رحل ، فتتواثب روحك روحك نحو السماء ، و تعلو فوق وثاق الأرض . . !
مر منذ تلك الليله ما يقارب الشهر ، وضعتهُ فيها على قائمة الإنتظار الى ما شاء الله ، و لم أسنح لعقلي فرصة التفكير بذلك المشهد ، و إذا اتصل تهربت منه كما يهرب الفأر من القطة ، و أغلقت هاتفي المحمول . . !
جاهدتُ نفسي مرارا ً على أن أرد على اتصالاته ، و لكن ضعفي كان يعيدني إلى نفسي صامتة مهزومة . . !
المشكلة لم تكن وليدة ذلك اللقاء ولا اللقاء الأول ، المشكلة لها جذور ، إن حنينا ً إلى الماضي، و شبح العجز عن الوفاء كأخر ما تبقى من صديق الطفولة ، و فارس أحلام الصبا ، أو خوفا ً من الحاضر في ظل هذا الكائن ، يدفعني إلى الهروب إلى الماضي لأحتمي به ، و أستجير بذكرياته . . !
كما و أنه ليس من السهل نسيان حبيبا ً ، قام بالتخلي عنك ، و متابعة الحياة كأن شئ لم يكن ، سواء مر عليه دقيقتان أو سنتان ، لا يزال الجرح نازف و القلق قائم . . !
( الرابع من نيسان ) في مثل هذا اليوم و قبل واحد و عشرين دورة للأرض حول الشمس ، صرخت صرختي الأولى ، و اليوم و بعد الواحد و العشرين دورة للأرض حول الشمس ؛ و بينما كنت جالسة مع اخوتي و أمي في غرفة الجلوس نشاهد التلفاز ، غير مبالية بهذا اليوم الذي يخبرني كل عام في نفس الموعد ؛ أني دنوت هذا العام من الموت أكثر ، زاد عمري و قصر أجلي ، إذ بهاتفي المحمول الموضوع بإهمال في أبعد ركن عني من الغرفة ، يطلق صفارة إنذار تنبئ باستلام رسالة ، قمت بكسل و ملل من مكاني باتجاه الهاتف ، فإذ برسالة معايدة ’’ مبروك يا حجة ، فقد أصبحتي عجوزا ً ، كل عام و انتي بخير ‘‘
ذكرتني رسالة المعايدة تلك بقول إليا أبو ماضي :- ’’ قل للذي أحصى السنين مفاخرا ً ،، يا صاح ليس السر في السنوات ،، لكنهُ في المرء كيف يعيشها ؟ ،، في يقظة أم في عمق سبات .. ! ‘‘
و إذ بضيفٍ ما يطرق بابنا ، سمعت الصوت المتصاعد لحفاوة و الدي و هو يرحب به أحر ترحيب ، مصطحبا ً إياه ُ إلى حيث نجلس ، فوجئتُ بأسامة ( خطيبي المبجل ! ) و قد رُسـِمُتْ على و جهي ألف علامة تعجب و استغراب
’’ ما الذي آتى بهذا الكائن الغريب ، و هل هذا و قته ُ ؟ ‘‘
فإذ به يحمل بيده قالب حلوة ، و في أحضان يده الأخرى باقة زهور حمراء ، لم أستطع إخفاء دهشتي العارمة ، و أنا أجول بصري بين الحاضرين ، عائلتي ملتزمة دينيا ً ، و لا تحتفل بمثل هذه المناسبات ، لذلك استأثر الجميع الإنسحاب و بقيتُ معهُ و قالب الحلوة و باقة الزهور بمفردنا ، يحملق كل واحدا ً بالأخر ، أطأطئ رأسي كلما نظر إلي ، هاربتا ً بعيني عنه ساجدةً بهما أرضا ً . . !
لا أعلم كيف وصلت و إياه ُ إلى غرفة الضيوف ، حقيقة لم أشعر بقدماي و هما يقودانني ، و كأن شخصا ً حملني و أنا مخدرة إلى ، فإستيقظت بعدها و جدت نفسي هناك . . !
حتما ً هذا هو الشخص الذي مثل أمامي في هذه الغرفة قبل 31 يوما ً ، و طلبت منه ُ أن يطلقني . . !
لم أشعر به إلا و هو يمسك يدي و يرفعها ، و يختم عليها بشفتيه ، ومن ثمة مد يده ُ إلى جيبه و أخرج منها علبة حمراء ، فتحها و أخرج منها خاتما ، بفصوص فيروزية اللون ، و ألبسهُ ببنصر يدي اليمن ، و أردف فعله ُ بقبلة رست على جبيني ، و قال :- ’’ هذا خاتم الخطوبة ، لن يخرج من يدك اليمنى إلا إلى يدك اليسرى ‘‘
و ختم حديثه بإبتسامة عريضة تصل ما بين إذنه اليمنى و أذنه اليسرى ، لم أفهم مهية مشاعري تلك اللحظة ، و لا سر سكوني بين يديه . . !
لا زال للحديث بقية . . . انتظروا الجزء الرابــــع
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــع !
Posted in: قصة قصيرة