إرتعش قلب أميرة ، و استطاع أسامة العاشق أن يصبح كل حياتها في فترة و جيزة ، و بات يشغل بالها طوال الليل و النهار . لا تفكر إلا فيه ، و لا تبحث عن السعادة إلا معهُ . رأت فيه الرجل الذي يستحق إخلاصها ، فأعطتهُ من الحب و الثقة مما جعلها أميرة حياتهِ ، و صاحبة الأمر و النهي في دنيا . و هي بدورها ألقتْ بقلبها بين يديه ، يقلبهُ كيفما شاء ؛ فقد أحبتهُ قدر جمالها ، فنفذ لها كل رغباتها بشكل يفوق إمكانيات البشر ، و فاض عليها بكل شئ ، و جلب لها من الهدايا ما إزدحمت بها رفوق مكتبتها ، و خزانة ملابسها ، و ثقل على معصميها ، فلا فرق عندهُ بين مصاصة حلوى و خاتم ألماس .
كانت أمورهما تسير على خير ما يرام من حبٍ و دلعٍ و شقاوة ، وكل ما يتمناهُ المقبل على الزواج . كل ما كان يتفق عليه معها يقبلهُ أهلها دون نقاش ، إذ كانت مسيطرة على الموقف كما كانت تقول . و مرت سنوات الخطوبة الثلاث و لم يواجهما أيّ مشكلة ، و لم يتعقد لهما أيّ أمر .
تخرجت أميرة من الجامعة بتقدير " جيد جدا ً " مع مرتبة الشرف ؛ و بما أنهما أصحاب كار واحد وفر لها عن طريق معارفهُ وظيفة في نفس المؤسسة التي يعمل بها ، فعملا معا ً في وظيفة محترمة ، لكن في جهتين مختلفتين ، و لكل منهما مكانهُ بعيدا ً عن الأخر ؛ كان أسامة يصر ألا تغيب أميرتهُ عن عينه للحظة ، يذهبا معا ً إلى العمل ، و يعودا معا ً ، لا يفارقها أبدا ً ، كيف لا و هي الحلم الذي يراودهُ ، و يرنو أمامهُ على قدمين بخفة و رشاقة متنكرا ً في صورة زهرة يفوح منها الأريج العطري الذي يسحر الألباب ، و يذهب العقل من الرؤوس إلى حيثُ لا رجعة .
خطيبتهُ في العمل خفيفة كالظل ، الإبتسامة لا تفارقها ، جادة في تعاملاتها ، لا تعرف أيّ لفٍ أو دوران ، لا يزيغ عنها بصرها مهما أحاطتها الأضواء الباهرة ، فهي لا تزال حيية خجولة ، تعرف طريقها ، و تقيم حدود الله . يفتخر بها و يشيد فيها في كل المواقف ، و يمتدحها في كل ساعة ، و لا تفلت منهُ ثانية إلا و يذكرها ، و لا يرى أوصافا ً جميلة إلا و ألصقها بها ، و كانوا زملائهم في العمل يحسدونهُ عليها و يحسدونها عليه .
مرت الأيام متلاحقة ، و إقترب موعد زفافهما ، و قبيل الزفاف بعدة شهور و بينما هما في زحمة السعادة جاءهم نذير الخوف ينذر بعواقب ليست السعادة من بين بنودها ؛ إنها " الإنتفاضة " .
اقتحم شارون و جنودهُ المسجد الأقصى ، فقام المصلين و أهلنا في القدس الشريف و كل فلسطين بالتصدي لهذا الشارون و من معهُ من إقتحام المسجد الأقصى ، إلا أن شارون و معهُ الآلاف من الجنود المدججين بالسلاح و العتاد ، اقتحموا المسجد ، و عندها إنطلقت الشرارة ، و تفجرت الإنتفاضة . جاء المحتل محملا ً بالموت و الرصاص و الدبابات بعد أن أزهرت فلسطين بشباب لا يمكن نسيانهم على مر السنين .
مضت الأيام متلاحقة ، تعودنا فيها على نشرات الأخبار و الأغاني الحماسية حتى صارت غذاء الروح ، نتابعها بفم مغلق و ذاكرة مزدحمة بالخيبات .
الساعة تقترب من التاسعة مساءا ً ؛ جلستْ أمام شاشة التلفزيون في انتظار نشرة الأخبار ، إلى أن تبدء نشرت الأخبار تناولتُ الجريدة اليومية المسجاة أمامي ، و رحتُ أقلب صفحاتها ، صفعتني عناوينها الطويلة ذات الخطوط السمراء العريضة . و خنقتني الكلمات و الصور المنتشرة على صفحات الجريدة . أفقت من حزني على صوت الهاتف ؛ كانت على الجهة الأخرى خالتي تتصل من الأردن بقصد السؤال عن الأحوال و الإطمئنان ، ناديت أمي لـتكمل معها المكالمة ، و عدت لجريدة سريعا ً ، كان قد استوقفني خبر يصدر عناوين الجريدة
" توفيت زوجة ، منعتها قوات الاحتلالمن الذهاب لتلد في المستشفى "
" توفيت زوجة ، منعتها قوات الاحتلالمن الذهاب لتلد في المستشفى "
جاءت عناوين الأخبار سريعا ً ، تتبعها نشرة الأخبار ، خرجت علينا المذيعة المتبرجة متماشية مع لغة عصر ملئ بعمليات التجميل ، تعلن عن مقتل العديد و العديد من زهرات الوطن ، مصحوبة بلقطات حية هي الأقرب ما تكون بالمشاهد المتحركة التي تتنفس من رئة الإنتفاضة ، في زمان مضمخ بالكبرياء ، و أمكنة تفيض بالأبطال و الأوجاع ، شباب و أطفال يواجهون النار بالحجار ، و صوت القصف يدوي ، و معلق خلف ميكريفون ينقل الأخبار أول بأول . و لم يتوقف الأمر على نشرات الأخبار ، و أصبح واقعا ً ، ننام على صوت الرصاص ، و نستيقض على صوت المدافع .
ما كدتُ ألقي بظهري إلى الكرسي لإقتناص لحظة أهرب فيها من زحمة العمل ، حتى داهمني صوت هاتفي النقال ، الذي عادة لا أعيرهُ لا أعيرهُ اهتمامي أثناء انشغالي و انهماكي في العمل إلا إذا كان المتصل خطيبي أسامة ، واجب علي أن أستقبل الإتصال من أعز الناس على قلبي .
" :- نعم أسامة ، ما الخطب ؟ "
رد علي بصوت غريب أشبه بنحيب لأول مرة أسمعهُ .
" :- أميرة إستشهد وسيم . . ! "
و أغلق هاتفهُ على الفور ، لم أستوعب كلمات الجملة التي قالها ، نظرت إلى هاتفي و نظرت إلى النافذة بينما صوت مكبرات الصوت الآتية من المساجد يخترق زجاج مكتبي المقاوم للرصاص ، فقد اعتادوا أن ينعوا الشهداء في المساجد عبر مكبرات الصوت .
" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ "
أه . . كم قرأت هذه الأية و رتلتها و تعبدت بتلاوتها ، لم أفهم معناها قبل أن ترتبط باسم وسيم أخو أسامة الوحيد !!
نزلت إلى الشارع هائمة ً على و جهي كالمجنونة ، أوقفت سيارة أجرة ، و قبل أن أتفوه بكلمة أخبرني السائق أن الطريق ملئ بجنود الإحتلال و آلياته العسكرية و أنه لا يستطيع الحراك قيدة أنملة ، بتوسل طلبت منه أن يجد أي طريق إلتفافي ، كنت أود أن أصل إلى حيث أسامة بسرعة البرق فقال :- " اعتذر منكِ أختي جميع الطرق مغلقة ، لا استطيع المرور بسيارتي . . "
:- " حسنا ً شكرا ً لك . . "
و ما كان أمامي إلا الذهاب مشيا ً على الأقدام ، و صلت بعد ربع ساعة من المسير مشيا ً إلى المنزل الذي يقيم فيه أهل أسامة ، كان البيت متشحا ً بالسواد الذي عم وجوه الحاضرين و ملابسهم ، كان الجميع جالسا ً في مكانه كأنما علىرؤوسهم الطير ، إلا والدة أسامة ( أم الشهيد ) تستلقي على فرشة صغيرة ، تغالبها دموعها ، فتقوى عليها تارة ، و تارة تضعف ، و بين الفينة و الفينة كانت تنادي على ابنها الشهيد و كأنهُ سيجيب نداءها. تجولت بنظري و لم أجد أسامة ، رحت أبحث عنه ، وجدته يجلس على الأرض في إحدى زوايا البيت يضع رأسه بين ركبتيه و يديه تطوقه ، يشد بيديه كأنه يريد الإنصهار في ذاته ، جلست أمامه محاولة رفع رأسه .
قال وهو لا يزال على نفس الجـِلسة :- " وسيم يا أميرة . . وسيم مات مات . . ليت الله أخذني معه "
تفجرت مدامعي ، و لم أستطع التفوه بكلمة ، تشجعت أخيرا ً ، و قلت له بصوت مبحوح : - " وسيم لم يمت يا أسامة ، إنه شهيد ، و الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون . . هنيئا ً له لقد نال شرف الموت في سبيل الله و الوطن "
عليّ صوت نحيبه حتى صار بكاء ، شلت إرادتي و تجمدت قواي حين سمعتُهُ يبكي ، لم استطع حتى مد يد لأرتب عليه . في الجزء الأخر من المنزل كانت النسوة تواسي أمه . جيئ بجثمانه ليودعه أهله ، كنت المرة الأولى التي أواجه فيها مشاعر الفراق وجها لوجه ، شيعت جنازته و دفن في التراب ، تفتحت أبواب السماء ، و استقبلته الملائكة شهيدا ً .
استعمر الحزن و الأسى ملام أسامة منذ استشهاد أخاه ، حتى أني بتُ أشتاق لإبتسامته ؛ حاولت جاهدة ً أن أخفف من مصابه ، في قرارة نفس كنت أدرك مدى صعوبة مهمتي ، و بعد محاولات متكررة استطاع الخروج من أزمته ، و تقبل واقعة استشهاد "وسيـم" .
في إحدى أيام الجمعة ، إتصل بي بعد صلاة الجمعة ، فرحت باتصاله حد الطيران قال :- " ألم تشتاقي لجلستنا المفضله ؟ "
ثم أردف بخجل قائلا ً :- " اليوم دعوت نفسي لتناول الغداء عندكم"
:- " بكل سرور . . إن لم تجد حيزا ً على الأرض فمكانك داخل الجفون "
بعد الغداء جلسنا في غرفة الضيوف على المقعد الذي اعتدنا الجلوس عليه ، كان بحالة جيدة ، و أثناء جلستنا ضحكنا كثيرا ً ، و قبل أن يغادر طلب أن يجلس مع والدي ؛ فاجئني أنه يريد تحديد موعد الزفاف بأقرب وقت ممكن ، على شرط التكتمل احتراما ً للشعور العام للإنتفاضة ، و بالفعل تم تحديد موعد الزفاف ، و يا لمفارقة القدر . . قبيل موعد الزفاف بساعات اجتاحت القوات الاسرائيلية الأراضي القريبة من بيتنا ، و دب القصف من كل مكان ، و بعد ساعات من القصف المتواصل ، خارت قواي تماما ً أصبحت لا أسمع إلا دوي إنفجارات متتالية لقذائف عمياء تطلقها الدبابات أرضا ًو طائرات الأباتشي جوا ً ، لتصتدم بالمنازل المجاورة فتمزق أجسادهم ، و لا أرى إلا أشلائي التي قد تتبعثر في أية لحظة ، فما كان مني إلا أن أحصي عشرات القذائف التي تتفجر قبل وصولها إليّ أو بعد مرورها من فوقي ، و أخمن القذيفة التي قد تسقط عليّ فتمزقني إلى أشلاء .
" يا إلهي لو أن قذيفة سقطت على منزلنا ، فكم سيموت منا ؟ و من منا سيدفن تحت التراب و من منا سيتقبل في الأخر العزاء ؟ "
تملك الرعب مني ، و أنا أفكر في ما بعد القذيفة التي يمكن أن تنزل على منزلنا في أية لحظة ، رفعت رأسي للسماء و دعوت ربا ً كفاني بالأمس ما كان على أمل أن يكفيني في الغد ما يكون :-
"اللهم ألطف بحالنا و لا تريني في أهلي بأسا ً يبكيني، اللهم أمين"
"اللهم ألطف بحالنا و لا تريني في أهلي بأسا ً يبكيني، اللهم أمين"
اشتد القصف و اقتربت أصوات الإنفجارات أكثر حتى شعرت أنها تدب تحت جسدي المتقوس على الأرض في أخر زاوية من غرفتي ، و في لحظة خاطفة تنبهت إلى صوت ٍ يزاحم ضجيج المدافع و نعيب الزنانات ،أنهُ صوت أبي يناديني :- " أميرة . . هل تسمعينني ؟ أتسمعيني يا أميرة ؟ أين أنتي يا ابنتي ؟ . . "
استجمعتُ قواي المنهارة و سرتُ أشق الظلام باتجاه والدي ، بدء صوت أبي يتلاشى ، و بدأت أشعر بالإختناق أشياء غريبة دخلت في حلقي ، طعمها حامضي و مشبعة بالتراب ، و فجئة بدء كل شئ من حولي بالإنهيار ، من أمامي و خلفي ، عن يميني و شمالي ، فوقي و تحتي ، حاولت زحزحة قدماي فصدها حدود المكان ، أدركتُ حينها أن أخر قذيفة سقطت انهار معها منزلنا ، و لم يبقى منهُ إلا المساحة التي إلتصقتُ فيها كقطت أثاث ، تجاوزتها الدبابات و بقيت لساعات طويلة تضرب حولها في كل مكان ، و بينما أنا جاثمة بين الحياة و الموت ، من وقت لأخر كنت أحاول تحريك جسدي المجهد لكن بلا فائدة ، يداي و قدمي مثبتتان و كأن جبلا ً يرقد على كل قدم و كل يد ، كان الخوف يتخللني ، أشعر برغبة ملحة للبكاء ، فكرت أن أصرخ مرارا ً لكني لم أفعل ، فأنا أعلم أن ما من أحد سيسمع ندائي ، اهتديت أخيرا ً الى اسبيل لراحة قليلا ً " الأذكار " ( آلا بذكر الله تطمئن القلوب ) ، قرأت المعوذاتين و الاخلاص كل منها ثلاث مرات ، مع قرأت أخر كلمة ( من الجنة و الناس ) تلاشى الخوف و بدأت أشعر بالدفئ قليلا ً ، و قبل صدق الله العظيم ، تضرعتُ إلى الله أن يحمي أهلي ، و أن يكون والدي بخير ، و رجوتهُ ألا يبقي أحدا ً منا يتجرع مأسات البقية ، فإما أن يبقينا جميعا ً أو يتوفانا جميعا ً ؛ غالبني السُعال فدخلت في نوبة متواصلة لم أشعر بنفسي بعدها إلا بعد طرقات الفؤوس الملتطمة بكتل الإسمنت من فوقي .
وضعت يدي على قلبي فأحسستُ بنبضاته ، كيف هذا ؟ هل قلوب الأموات تنبض ؟
و يداي تتحركان ما عادتا مقيدتان
وضعت يدي على قلبي فأحسستُ بنبضاته ، كيف هذا ؟ هل قلوب الأموات تنبض ؟
و يداي تتحركان ما عادتا مقيدتان
فجئة عليّ صوت الآلات حولي و خترقت طبلت أذني أدركت انني في المستشفى ، كنت منهكة جدا ً ، و أشعر بصعوبة في التنفس و صداع رهيب يكاد يفتق برأسي ، و موجات برد ٍ تتخلل جسدي ، إذ بيد ترتب على يدي .
:- " لقد قضيتي في الغيبوبة وقت طويل حتى أننا اعتقدنا أنك لن تستيقظي منها أبدا ً ، فعلا ً إنها معجزة . . الحمد لله على السلامة "
إنها أمي شعرت بها تضمني ضمة قوية لأحضانها ، و تتلمسني بيديها و تطوف بحنان كفيها على جسمي الممد بلا حراك ، و تمسح على رأسي فتزول الجراح و تبرء ، و تبدل الفزع المستعمر بداخلي بـقبلة تطبعها في كل ركن من اركان فؤادي ، وددت لو أنكمش بــين ذراعيها لأذرء موجات البرد التي تجتاحني بدفئ أحضانها ، فــتحولها لأغنية تضخ الامل في عروقي ، شعرت بدمعاته تتهاوى على مكان موضع رأسه فوق صدري دمعاتها أشبه بــماء النار تخترق كل شئ و تنساب على جسدي !!
لا زال للحديث بقية . . . انتظروا الجزء الخامس