الاثنين، ديسمبر 24، 2012

✿ - هموم وطن | خمس قصص قصيرة جداً .


(1)
ثــائــرة ..

جندلت كتفها ببندقية والدها المخبئة من تشرين 1973 ، وهي تقول :
- كفرت بالنظام يا صمد ! 

فزغردت في الأصداء البنادق تغطي على زفرات الموت المتزاحمة :
- إذا قررنا يوماً .. سوف يزول !
الموت الموت .. للأسد 
الموت الموت .. للأسد 
الموت الموت .. للأسد 


(2)

في أوطاننا فقط ..

# إذا صارح الشعب الحاكم : " نعم ، نحن الشعب لا نحبك ! "
طال عمر الحاكم و قصر عمر الشعب .

في أوطاننا فقط ..

# يُشتَكى الهَمّ للغَمّ ، تبكي الدموع العين ، و تُضمد الأوجاع الجراح !


(3)
ملحمة ..

في المعركة .. قُتِل الفرس العربي الأصيل ، و قرر الفارس أن يكتب مرثية
فَـتَـعَـنّـتَتْ الأبجدية !


(4) 
ألم ..

_ شايفك مَوجُوع .. من شو عَمّ تِشّـتِكي ؟!
_ وطني يا صاحبي عَمّ ينئح عليّ نَئِح !,,,,
,

(5)
ثورة ..

أعلن الوطن ثورته ، زمجرت الريح على البسطاء ، فتاب اللص و صار الملك !




- تمت .

الأحد، ديسمبر 23، 2012

✿ - بعض النهايات لها شجن | مجموعة قصصية .




(1)
صوت الخلود ..

بينما كانت جالسة في سكون تحلم بعائلة ، و بيت هادئ ، و طفل أليفة كقطة . شعرت بشعور غريب جعل نفسها توجس لها بقدوم الموت . سمعت صوتاً قادم من السماء ، عذب يطرب الآذان ، وقفت تلبي النداء ، فإذ به الخلود يستعجلها الرحيل ، راحت في اتجاهه غير مبالية إلا بروعة ذلك الصوت القادم من غيابات الجُبّ .

 كل الأصوات من حولها غابت فما عادت تسمع سواه .
إنه  قادم إليها بأروع هندام ، و هي تتزيّا بثوب زفاف أبيض و بكل ما حظيت به من جمال و روعة ، مسك يدها ، و قال : " هيّا معي ! " ، فذهبت معه على موعد أنّ ترسل من نسلها من يكمل الحلم عنها .

 ثوانٍ قليلة ، و تصاعدت صرخات المحاض في غرفة الولادة ، تزف بفرح قدوم من سيواصل الحلم ، و تنعى رحيلها لعالم الخلود .

(2)
القبر بيته ..

قالت لهُ :- " لا أريد قصراً .. يكفيني أن أغفو بين ذراعيك فوق أرضية غرفة ، و لو كانت بلا صقف ! "
فـَ أمهلها بضع سنين يسافر فيها إلى إحدى البلدان للعمل ، و حين يعود سَــ يبني لها قصراً ..
سافر و صارت تبني لهُ كل يومٍ بيت شعرٍ على بحر عشقها ..
و مرت الأيام متلاحقة حتى وصل الحلم لذلك البيت الذي سَــ يتوج حبهما ، و يتزوجا بعد سنين الفراق و الإغتراب .. 
و في عصر أحد الأيام الصيفية قبيل موعد الزواج بــِ أيام أصابة رأسهُ رصاصة طائشة ، و هو متوجه ليستلم مفتاح باب ذلك البيت الذي سَــ يجمعهما أخيراً  ..
نقل على إثرها إلى المستشفى حيث حضي هناك بــِ صندوقٍ خشبي على مقاسه تماماً !

(3) 
الفستان الأبيض ..

سبقها إلى الدنيا بــ يومين ، فنمت و كبرت حتى أصبحت صبية غيداء أمام عيونه المفعمة بالود ، و كأنها عروس خلقة لهُ !

و في الوقت الذي لم تمتلك فيه الجرأة لــ تخبرهُ أنها لا تستطيع العيش من دونه ، أخبرها أنه لا يريد من الدنيا إلا هي لــ يمنحها ما تبقى من أيام عمره ، داخلاً محراب حبها بخطوات واثقة حيث هدتهُ روح طفلة لم تعكر صفوها تجارب السنين، و لطالما حلمت أن ترتدي لهُ الفستان الأبيض ، و من أجل ذلك الحلم حبى في درب الكد و العناء حتى وصل الحلم لذلك الفستان الأبيض !

و فعلاً ذات صباح إزدحم بكل شئ ، و خلا من الفرح صدمتها سيارة مضى صاحبها مبتعداً غير مبالي ، دنى منها و هو يفرك عيونهُ بيديه محاولاً تكذيب ما رأى ، ناداها فلم تجب ، حاول هزها بيده الرجفى لكنها لم تتحرك ، وقف برهمة من الزمن ينظر إليها بــ عيون الدهشة ، و هو يرج رأسهُ حتى يبعد فكرة سقطت من خاطرة الكوابيس صعب عليه تصديقها !

حملها بين ذراعيه متجهاً بها إلى المستشفى بــ خطوات تسابق الريح ، و دمعهُ المسكوب يطيح بكل الصور التي تأتي أمامه لــ سنوات ترتعش على مرمى دمعتين إنحدرت على وجنتيه مزغللة عينيه ، حيث حظيت هناك برداء أبيض ، فــ فشل في إهداء عمره لها حين نجحت هي و أهدتهُ عمرها كلهُ ، فــ إرتمى في أحضانها يودع ما سيضيع من عمره الباقي في غيابها !

للعلم . . هناك عابثاً كل يوم في مكان ما يكتب ( بقلم غير مبالي ) نهاية حكاية لم تكتمل فصولها !

(4) 
لأجلك لن أموت ..

قالت له : " لن أترك وحيداً فأنا أحبك يا أريج حياتي .. سأتشبث بالحياة ما استطعت كي لا تغرق بعدي بالطوفان ، إن شئت اختبرني ممرني بأحشاء الماء ، ستجدني جلداً كصلمود ، لا أذوب في البحار . ستأتخطى بحبك الأمواج و الإعصار ، سأخترق الظلمات السبع كنور البرق ، و أعود معك لنتوج حُبنا بالزواج . 

صار كل يوم يعقد لها ضفائر العزيمة و القوة و يزينها بقصائدة الغزل .
و في إحدى مساءات الشتاء رآى سيارة اسعاف قادمة بإتجاه بيته يحمل صندوقا .. في الصندوق حبيبته جثة هامدة ، أحضروها لتودعه بصمت !

(5)
 توبة عرافة ..

ضربت كفاً بكف ،و ألقت بأصدافها على المنديل أمامها تستطلع الطالع ، قالت : " ستموت يا ولدي بعد ثلاث ليالي ! " ، سأل : " كيف أموت يا خالة ؟ " 
قالت : " ستموت يوم عرسك ، و الذي هو بعد ثلاث أيام فأنا أقرأ ما هو أمامي مكتوب ! " 
تبسم و اطمأن قليلاً ، لم يكن عرسه بعد ثلاث أيام كما ادعت العرافة .

قال بعد أن لملم أجزاء قلبه الذي بعثرته تنبآت تلك العجوز قول الله تعالى : " ما كان الله ليذر المؤمنين  ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب و ما كان الله ليطلعكم على الغيب و لكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله و رسله و إن تؤمنوا و تتقوا فلكم أجر عظيم " . 

قررت العرافة التوبة بعد أن تمعنت المعنى المتجلي وراء الآية القرآنية طمعاً بالأجر و المغفرة . هجرت بيتها ، و جابت أنحاء المعمورة هائمة و مستغفرة ، و لما عادت وجدت المكان و قد تحول إلى مزار يآتونه المتلصصون على الغيب من كل فج عميق ، تطوفه عشرات العرافات الجدد . 

(6) 
العودة إلى الأرحام أمان ..

اكفهر وجهها ، و صبت جام غصبها تلك الليلة بترك المنزل و المدينة ، لتتحرر من قيود والدتها وخوفها على نطفتها - التي ستبقى بعينها قطعة لحم هشة - ما كبرت .

 حلقت كعصفورة صغيرة تعلمت الطيران حديثا مزهوة بجناحيها ، وهي تبحث عن عالم جديد .

ذات يوم التقت بأمها في الشارع ، عرضت عليها العودة للبيت فرفضت ، استجدتها فتعنتت . و في المساء نامت الوالدة معانقة خيبة أملها في ابنتها ، و فشلها في تربيتها .

و عندما أدركت أنها نملة صغيرة تداس بالنعال دون أن يراها أحد عادت إلى البيت ، و أخذت تمور في حضن أمها الدافئ بعنفوان ، و كأنها تريد أن تعود لجسدها الذي هي جزء منه ، فوجدته متيبساً و بارد جداً .

(7)
سندريلا ..

إلتقى بها في ساعة متأخرة من الليل ، عرض عليها مرافقته متأججاً برغباته الدفينة فرفضت ، داعبها فصدت . و حين أدرك أنها تختلق عن الفتايات اللواتي يظهرنّ أواخر الليل كانت قد غادرت .

ظنّ أنها سندريلا ، راح يبحث عنها في وجوه النساء في كل مكان إلا في قلبه .

(8)
خواء ..

كان ينظر ناحيتها ، و كانت مرتاحه لذلك ، وحين أشاح وجهه عنها مررت أصابعها على سطح ملامحها في غنج ، وهي ترسل شعرها الفاحم إلى الوراء ،لم تجد شئ في مكانه .

صرخت : " ما عدت أشبهني ! " 

(9)
أمنية ..

هبطت أمنية ضخمة من فستان غيمة ترقص على أطراف أصابعها فوق عاشقها ، و أردته قتيلاً .

غطته بغلالة من ضوء ، ضمدت جراحه ، جبرت كسوره ، و طارت نحو الغيمة وهي تصرخ : 
ـ لم أكن أعلم أني ولدتُ في جمجمة هشة لا تحمي حلماً ، ولا تستوعب تحقيقه ولو فكرة ! " .

(10)
الحب المستحيل ..

إلتقيا في ومضة حلم ، في لحظة لم يدركها الزمان ، و المكان نافذة قطار و محطة . عصفت رياح الحب مخلفة فستان أبيض يبتظر تقاطع الخطين المتعاكسين ليسيران في نفس الإتجاه .



- تمت 

الخميس، ديسمبر 20، 2012

✿ - في ديسمبر تتلون الأحلام !




 ديسمبر ..

اشتهاءاتُ دفئ نستودعها الخالق الذي [ لا يخيّب لنا رجاء ]

تتمّة فصول ناقصة لحكاية لا تشبه ما مضى من الحكايات 
و مواقد تنجبها الصدور دون أن تسمع من القلب النداء 


رسائل الحنين المرتفعة إلى السماء .

رنين زخات المطر ، و دعوات لم تعد هباء .

عزفٌ منفرد يناجي الوجد دون عناء 
يدغدغ الروح ..  يداعب الحنايا بالأحلام ، و تواشيح الغناء .

تتمّة فصول ناقصة لحكاية لا تشبه ما مضى من الحكايات 
و مواقد تنجبها الصدور دون أن تسمع من القلب النداء 

من قال ’’في ديسمبر تنتهي كل الأحلام  ’’.. لا يدركه أبداً !
~ ديسمبر  غيمة تمطر الروح بالحنين معلنة فصل جديد يبوح بكل الأماني .

إفرحوا فيه ، و لا تجعلوه خريف أحلامكم ،  ما و لدت الأحلام يا رفاق لتموت 
و استهلوا عامكم بأحلام ملونة تولد من خاصرة هذا الشهر { البارد الدافي ~



:



* أتمنى لكم ديسمبر سعيد .. تولد فيه الأحلام و لا تموت .

الثلاثاء، ديسمبر 18، 2012

✿ - كتاب إلكتروني من أجل أركـانـا | دعوة عامة .


(1) 

هناك وطن ضرير
يمور في دمي
كالجمر في مرج احتراقْ
و هناك أمه غدت بدون يد و ساقْ
حبلى بجيل معاقْ
و توأمه المثكل في مكارم الأخلاقْ .


لأنّ لنّا في ( بورما ) إخوة قابعون بين براثين | أهل كفر | لا يرحمون منهم صغيراً ولا كبيراً ، و العذاب صار لهم  طريقاً ، و الهلاك قدرهم المحتوم .
 و لأننا لا نملك من السلاح إلا الكلمة نسطرها استنهاضاً للهمم و شحذاً لعزائم نصرهم ، فلنبعث لهم جيوش القصائد الشاعرة ..

ْ ~  الفكرة .. 
كتاب إلكتروني يضم مشاعركم الداعمة لـ مأساة أركان 
بـ رعاية المركز الإعلامي الروهنجي 
 لعل الله ينفع به قضيتهم . 

 ~  أهداف المشروع .. 

1- ربط المجتمع بهموم الأمة الإسلامية .
2- نشر القضية إعلاميا في مواقع التواصل الاجتماعي خاصة ، والإنترنت عامة .
3-  إثراء الجهود المبذولة لدعم ونصرة القضية.
4- جذب الناس و مشاعرهم اتجاه القضية .
5- إيجاد بيئة تحتضن الأدبيين والأدبيات الراغبين في دعم القضية  .
6- تشجيع الكتابات الأدبية حول القضية وخاصة أنها تعاني من شح في هذا الجانب .

 ~  شروط المشاركة في الكتاب .. 

1- أن تكون المشاركة باللغة العربية الفصحى. 
2- صياغة النص صياغة مناسبة ولائقة بالجمهور المتلقي.
3- أن يكون موضوعها الرئيسي قضية أركان المنسية .
4- أن تكون من كتابات الشخص المشارك نفسه ولا تقبل المشاركات المنقولة.
5- أن لا تزيد المشاركة عن صفحة ورد واحدة .


# أقترح عليكم أصدقائي المدونين أن يكون يوم الخميس 28- 12-2012 يوم تدويني موحد من أجل قضية مسلمي أركانا و ما يتعرضون له من جرائم ابادة ضمن حملة التدوين الأسبوعي .
الدعوة على الفيس بوك ( هُنــا )

 ~  الاميل الذي تستقبل عليه المشاركات .. 
arakanbook@hotmail.com


:


ليس بالضرورة أن تتسأل عن كيفية اقتحام جسد الحرف ..
عادة ما يقودنا الوجع إلى الركن الذي يبتكر ( قافية )
بهدوء دونما صوت ..

عادة ما يرتد الحرف عدسة مجهر تلتقط بالحبر صور الموت و القتلى ظل عاكس لـ ضوء باهر ، أو كلمة حق في سبيل الله !


(2)
إني سمعت هناك أصواتاً تنادي
هبوا إلينا ناصرين من الأوباش الأوغادِ

 انقضوا أولادي
و  الحقوا قطرة دم علقت في قبضة جلادي  
                                  
أو امنحوا الثكالى في بلادي فسحة للأنين
و اليتامى وقتاً ليشعروا بالحنين 

و الحدادِ 
على موتى لا ذنب لهم سوى
( لا إله إلا الله )

يا أمة تجيش القصائد بالشجون
و تغني أغاني النوم للعتادِ

لنا في بورما أخوة اشتكوا الحياة
وما حياتهم إلا جحيم ويلها بازديادِ .


و الله ولي التوفيق .


حنين نضال



الأحد، ديسمبر 16، 2012

✿ - في المقهى عابر سبيل | قصة قصيرة .




كان يرسم انكسارات فؤاده بأدوات الغياب الهندسي كمحاولة جادة منه لنسيان طيوره المهاجره ، و أشكال محبتهم المضلعة ، و كيف كانوا بداخله قبل رحيلهم المفاجئ . بقع خوف مستريب ممزوجة بالسخام تتناثر داخل فنجان من القهوة المرير كأنها من صنع فنان ، و كانت كل الذكريات تتهاوى أمام النسيان .

شعر بالضيق ، فخرج على غير هدى ، حملته قدماه إلى مقهى في طرف المدينة . وما أن أستقر على المكوث طلب من النادل فنجان قهوة . مر وقت و لم يرتشف منه رشفة ، و اكتفى بالغرق في مقعده ، و افتراس الوجوه التي كساها الشحوب . كل غارق في أحزانه ، في منفاه ، أو في كتاب يفصح عن هزيمته . العيون الذابلة تنظر إلى اللاشئ في فضاء يضج بسخرية الزمان ، و تراكمات الأيــام من الهموم المكدسة على الكراسي المتناثرة حول الطاولات في المكان ، و همهمات تتصاعد و تخبو على شكل موسيقى غامضة تتجاوب مع زفرات تنفث دخان المحبطين و هم يمتصون بعضاً من همٍّ راقد في قعر السجائر ، و قرقعة الأراجيل و هي تعزف لحن الوجع كاولكسترا دامسة تشعل جمرات الحنين تحرق الصدور ، و تحترق .

و بينما يستعيد ذات الحكاية مرة تلو الأخرى غير مستمتع بالمفارقة بين زير النساء المتهور الذي طوّف في جهات الدنيا الأربعة ، فكان له في كل ميناء امرأة ، و بين العاشق الأبله الذي خرج من عالم العشاق ظافراً ، مهزوماً ، متردداً لا يجرؤ على إلقاء تحية الصباح على فتاته . استوقفه مشهد سيدة تجلس على طاولة مزدوجة بمفردها ، تخاطب الكرسي الفارغ المواجه لها متأملاً ، و مستغرباً ، و متسائلاً : " ما الذي تفعله هذه السيدة ؟ " .

تضاريس وجهها تخفي وراءها كبت وقسوة زمان ظالم ، و فنجان القهوة يأخذ مكانه بجوارها بتواضع يبعث على الحزن . توهم أنّها مصابة بالشُزوفينيا ، أو فقدت عقلها لسبب ما . قال في نفسه : " الأمر لا يعنيني ، فلست أكثر من عابر سبيل . " ، بعدما رمقته بنظرة مهددة . لم يكن يتخيل لبرهة أنّ تلك السيدة تملك موهبة مختلفة و غربية ، و هي قراءة أفكار الآخرين .

اقتربت منه ، قالت : " قد تكون الآن تحدث نفسك ، و تصفني بالجنون ، لست مفصومة الشخصية يا عزيزي ، ولكن كثيراً ما يأتي الإنسان لحظات يتيه فيها ، و ينقسم على ذاته ، و يخيل له أنه يحاور شخصاً أخر ، وفي الأصل هو يحدث عقله الباطن . أنا هكذا آتي إلى هنا كلما ضاق صدري ، و أقضي الليل كله في استرجاع ذكريات مضى عليها زمان طويل ، و أخاطب خيالي مكتفية بالراحة التي أجنيها من حديث النفس لنفس  . "

غمره ارتباك ، و أحس أنها تنتظر الكلمات التي ستخرج من فمه . رفع لها يده بإيماء أن تتفضل بالجلوس ، و نادى النادل لتطلب شيئاً .

ـ  أوما تقلقكِ نظرات الناس ؟

تفحصته كأنها مستغربة من سذاجة السؤال .

ـ لا ، هؤلاء الناس الذين تتحدث عنهم لا يدركون الراحة النابعة من حديث النفس لنفس ، وهم ليسوا مثلي على أيّ حال . لهم عالهم الخاص الذي يقيده البرستيج ، و لي عالمي الذي أمارس فيه رياضة امتطاء جواد النرجسية .

أحس بحميميّة غريبة نحوها جعلته يشعر أن هذه السيدة زادت من كمية القهر التي ضاق صدره بها ، و صارت تسيل منه إلى حواف الطاولة .

*

تبسمت فجأة فتغير كل شيء في المقهى ، دبت الحياة في الجماد ، وعادت الألوان إلى الوجوه الشاحبة ، و إلى الصور الباهتة ، حتى الثريات المتدلية من السقف أوشكت أن تتحول إلى أغصان عريشة مزركشة بالعناقيد ، كل هذا حدث أمامه في لحظة واحدة ؛ لحظة أنّ ولجت إلى عينيه ابتسامتها كفراشة ملونة حبلى بربيع صاخب . تحيل الجحيم إلى جنة بمجرد حلولها فيه . ارتعش فسرت فيه روح خفيفة كادت أن تجعله يتنفس .

بدأت تسترسل في الحديث ،  و تفرض حضورها الصاخب البهيج ، تماحك ، تطيل المساومة ، و تقرع آذانه بقصص عجيبة مرت بها في مشوار حياتها ، عن فشلها في مستهل العشق ، وكيف تجاوزت ذلك الفشل ، عن الوطن ، و الانتفاضة ، و ذكريات النضال التي اختزلها كل من عاش تلك الأيام ، كان متابع لحديثها بشهية مفتوحة عن آخرها ، فمثل ذلك الحديث يخفف عنه ، و يسليه . لم تتوقف عن الكلام ، فقد أخذت من الغربة ، و الوحدة التي يعيشها كلٌّ منهما مادة يتغذى عليها الحديث حتى آن موعد الانصراف . فقد أخذوا بالحديث العابر كل المساء قبل أن تكتشفهم زوابع القدر ، و تثور .

ـ هل راح النهار ؟

ـ أجل ، لقد غادر منذ زمن .

ـ على ما يبدو يومي يرفض أن يسدل ستارته . لقد أثقلت عليكِ بثرثرتي ، أعذرني .

تنفست الصعداء  كأنها فراشة أو ريشة تحملها الريح ، و همّت بالنهوض شاكرة سعة صدره ، وهي تقول : " لم يبقى في المقهى سوانا ، و بقية هموم جريحة . "

دفع لنادل حساب الطاولة ، و طلب أن يوصلها .

ـ الوقت تأخر ، هذه الليلة معتمة و غامضة !
- أجل !


*

لم يجرؤ على طلب رقم هاتفها ، ولا حتى سؤالها عن اسمها ، أو أيّ معلومة تجمعه بها مرة أخرى ، ربما لأنه ملسوع القلب . وقف خارج المقهى يسترق السمع من السماء ، هناك أصوات كثيرة تهمهم بالوداع ، و هو يراقب سيارتها و هي تبتعد ، و تبتعد ، و تصغر ، و تضمحل .

 دموعه تتلألأ في مآقي الماضي ، و تطغى على الأجواء المشبعة بالأضواء تعيد ذكرى الرحيل ، و تفتته كشظايا بلور رياح عابرة من جانبه تحمل عطراً سقط في قعر القلب لهيباً يصهره ، و يعيده إلى جحيم ذكريات نجت من حياة سابقة ، و يمضي كما جاء عابر سبيل لا يمكن استبقاءه مهما قُدم له من مغريات .  


ـ تمت . 

الخميس، ديسمبر 13، 2012

✿ - سيد فؤدي اقترب | قصة قصيرة .




أوشك الليل أن ينتهي و هي لا تزال تلعب بخُصل أحلامها المتدلية على أكتاف يقظتها ، هاربة من شبح الفقد و الوحدة الصاخبة ، فلا أحد يشعر بالوحدة أو يسمع قرع طبولها إلا من خلت حياته من الونس ، تبحث عن مخرج لما هي فيه ، فتجد ضالتها بنسج القصائد التي تفتح لها أبواب مدنٍ تحلم بزيارتها برفقة فارس قادم من العصور المنصرمة ، تتجول فيها حتى الصباح وهي تسرد لفارسها الحكايات عن بعد ، ثم تعود لأحلامها منتشية ، تعانق وسادتها و تنام .

حين تستيقظ تجد نفسها غارقة في كومة من الأوراق المكورة ، و قد عانقت صفوفاً مرصوصة من كلمات و سطور كتبت بلغة غيرة صالحة للقراءة ، تحمل هلوسة ليلها قبل أن تُولد على يديها قصيدة جديدة ، دائماً تقول : " أنا شاعرة تولد من فوضويتها الأشعار ! " .

بالإضافة إلى ملكة الشعر مهووسة بالفن التشكيلي منذ صغر سنها ، حبها بهذا الفن الراقي و ولعها به جعلها تزور كل المعارض التي تقام في مدينتها .

وصلت إلى القاعة ، قليل من الموسيقى ترافق خطوات الزوار  الهادئة ، بدأت تتجول بين اللوحات و كأنها تبحث عن شئ ضاع منها منذ سنين ، تعقد الخطوة بين اللوحات ، و تمضي و قتاً ليس بالقصير في تأملها ، انتابتها حالات تظل فيها مساهمة مفكرة ، شعرت بالألوان التي تطرطش كل اللوحات تحمل نكهتها ، تحمل جزءاً منها ، و بينما كانت شاردة الذهن قاطعها :

ـ تشرفت بحضوركِ سيدتي .

ـ زادكَ الله شرفاً ، المعرض جميل و الموسيقى المنبعثة أجمل ؛ لكني شعرت بأمر غريب في لوحاتك .. أتعلم لو كان لها لسان يتكلم لرددت بعض قصائدي .

ـ لعل هذا ما يسمونه توارد الخواطر .

ـ أنا عاشقة لهذا الفن منذ نعومة اظفري ، و دائماً حريصة كل الحرص على حضور المعارض التي تقام هنا و هناك ، فلا توجد لوحة إلا و كانت حكايتها و تاريخها حاضراً في مخيلتي ، لكنها المرة الأولى التي استشعر فيها بهذا القُرب بين اللوحات و بيني .

نظر إليها و إذا بها محدقة في معالم اللوحات سارحة في خيالها و قد غلبت عليها الحيرة ، و بعض القلق بدى على ملامحها .

ـ في العادة تتكون في عقلي القصيدة بعد مغادرتي إحدى المعارض ، و لكن هذه المرة سبقتني قصائدي إلى هُنا ، تسللت من خلال الألوان ، تجسدت في ملامح المكان !

بدت عليه الابتسامة الخفيفة و هو ينظر إليها ، فإذ بصوتٍ يقاطع همسها و يناديه : " أستاذ .. ممكن لحظة ؟ " ، استأذن و غادر ببطء .

وقفت ككل خلق الله في المكان تتابع حركات ذراعيه ، و هو يستعرض لحملقة الجموع ضربات فرشاته . طوال الوقت كان نظره معلقاً بها ، يرافق حركاتها و يتجول معها إلى أن غادرت تاركة له عطرها سارحاً بين أنفاسه ، كأنها قد أبقته له ذكرى مخلفة وراءها رجلاً وحيداً يجد في دواوينها عالماً مزدحماً لا ملل فيه ولا سكون ، تذوب كلماتها في دمه ذوبان قطعة السكر في فنجان قهوته ، فترتسم سمرة وجهها الجميل ، و ملامحها ، و يحلق في دخان سجائره دون أن يعرف إلى أين .

كان جالساً أمام فنجانه يقرأ إحدى قصائدها : "سيد فؤادي أقترب " 
يرن جرس الهاتف ليقطع بقسوة يد أفكاره التي تكالبت على جلده وقتاً طويل ، يملأ رنينه خواء روحه حضوراً و ألفة .

ـ ألــو ..

ـ ألــو ، كيف حالك ؟ معك الشاعرة سلام حاتم ، اخترت إحدى لوحاتك لتكون غلاف لديواني الجديد ، اتصلت بكَ لتحديد موعد لإتمام الأمر . 

يأخذهُ صوتها ، يتسرب إلى أعماقه كماء بارد يريد شربه ليبلل عطشه الحارق بالنبرة الشادية ، و تتغلغل النبرة في كل جزء من أجزاء جسده ، و تطفي حرقة أشواقه ، تأخذه النشوة ليرتسم صوتها أمامه حياة يريد أن يعيشها عن قرب ، لحناً يريد عزفه لا أنّ يسمعه فقط ! 

ـ كل لوحاتي على حسابك ، و أنا رهن أمرك .

اندفع صوته و كأنه صوت كر صخور سقطت من مكان عالي ، بدا متشنج و مشدود بشكل يثير الشفقة ، كادت حباله أنّ تنقطع .
    

ـ متى سنلتقي ؟
ـ وقتما تشائين !
ـ أيناسبكَ يوم غد الساعة الثانية بعد الظهر ؟
ـ على موعدنا إذاً .

انتهت المكالمة بلطف ، و بقي صوتها رحلة مجهولة لا تجد فيها أقدامه فرصة للرجوع ، أقدامه مخدرة تتقدم ثم تتراجع لتطفي جلبة مضافة لفراغ الغرفة ، خطوة للأمام و خطوة للوراء ، و بين الخطوة و الأخرى لحظة يدرك فيها قلبه صوتها ، وفي الجانب الأخر صوت أنفاسها التواقة لاستجابة ما تدلف إلى رأسه دون دعوة ، ترسل له قصائدها أنيناً متقطع تخاله فرحا ً مبتوراً ، و أحلاماً غير منجزة تضيف إلى ألوانه حساً جديد يتحول إلى شوق ، شوق الموعد .. شوق اللقاء .. و نبرة صوت كأنه شربة من كأس الخلود .عاد لفنجان قهوته و شوقه يغني للغد " أغداً ألقاك ! " . 

ـ لو كان هذا حلماً لأفقت منه ، ولكنه واقعاً ممزوجاً بانتظار لذيذ مجبول بشوق يزداد كل لحظة ، و يكبر .


ساعة اللقاء ..
تفصله عن الثانية بعد الظهر لحظة التأكد أن عيونه لا تزال في محاجرها ، و كلماته التي يريدها أزهى   ما تكون بحوزته ، و في لحظة تحول اللقاء من لقاء عمل إلى لقاء غرامي

ـ على وقع كلماتك الألوان تغزف ، و المشاعر تغني ، كوني أنتِ لحني الخالد .

ـ يخالج ألوانك بعضي ، فتنضج لوحاتك ، ألم تخبرك قصائدي قبلاً أني سأرتسم أمامك يوماً ما لأكون حقاً المرأة المتجلية وراء أعظم يد تمسك الريشة و تلهو بالألوان .

ـ جعلتي قلبي يرفرف من أول حرف كما يرفرف الآن .. من أنتي ؟ هل أنتي أميرة أحلامي أم أنتي القصيدة ؟

ـ لست مجرد قصيدة تعيشها لدقائق ، ولا لوحة تسهرك الليل و تنتهي بأخر ضربة لفرشاتك ، أنا أمامك الآن حكاية لا أتمنى أن تنتهي ، ترافقك كابتسامة أبدية حفرت معالمها في ملامحك ، و ثنايا الجلد على وجهك يلفاها كل من ينظر إليك .

مرت الأيــام و السنين ..
غادر الفنان العظيم بعد أن أهدته إلهامه ، فتميز و سطع نجمه في العالم أجمع بوقت قياسي يحمل فرشاته ، و جواز سفره ، و قلبها معه ، يتنقل بين البلدان بدون أن يفكر بالرجعة.

حملها له الزمان على بساط الصدفة البحتة  ، و وضعها أمامه من جديد ، ابتسامة لا تجلي فرحها ، عيون لا يقدر على قراءة ما سُطر فيها من قصائد ، اشتعلت نيران قلبه العابس بتعالٍ ، و عندما بدء بطرح الأسئلة لم يجد سوى محيط مفتوح على سماء لا نهاية لها ، توقف أخيراً عن الأسئلة السمجة ، و وجد نفسه يلبي نداءاً تبعثه عيناها لينقضها من قلق لا مبرر ، و خوف خاوٍ من محتواه . الوقت غير ملائم للأسئلة و لا للأجوبة ، لعله لم يدرك بعد عمق الجرح الذي تركه انسحابه عندما وصلا إلى ذروة العشق ، تتحول الشفاه الرقيقة إلى خشب ، و رسائل الأميرة إلى فارسها تتحول إلى أصابع اتهام ، و سوفاً و رماح .

ـ آذيتني بصمتك لكنكِ لستِ بحاجة للحديث ما دام لكِ عينان تثرثران بما أبحث عنه من أجوبة .

ـ لو تعلم كم من العمر سرقت ، كم من حرفٍ أبكت ، وضعتك في قلب كلماتي المذبوح ، فما عدت أذكر كيف كان الشعر قبلك ، كل قصائدي تمر من خلالك قبل أن تقرأها عيني ، تتدافع في صدري شارعة السيوف لتدافع عني أمام جيوش غيابك ، فهي أكثر عنفاً من جيوش رتشارد قلب الأسد ، و أكثر منها خراباً في معركة تلاحمت فيها المشاعر و حبك العقيم .

يعلم بانتظارها الدائم له طوال السنين الماضيات ، و استكثر عليها هذا اللقاء . لم تدرك كيف أفلت يده من قبضتها ، شعرت من انفلاتها بثقل خطواتها ، و بطء المسير ، شعرت بأن الأرض توقفت عن الدوران ، و بأن الحياة توقفت ، شعرت أن العشق ساحة معبأة بالوجع المكثف ، ضاع منها الكلام وراء ستار من الدموع يمتزج بحسرة غريبة .

راحت تبحث عن فراشة ذاتها لتتأكد من أنها لا تزال قادرة على الطيران ، فدائماً كانت هي الشمس و كان هو الغيمة التي تحاول حجب الشمس . من لهيبها امتصت جناحيها القوة فطارت ، و على قلبه حطت قصيدة تبحث عن فاصلة زمنية ليقف عندها .

ـ كلانا يا عزيزي بحاجة للحظة هدوء تحسم بعدها الأمور ، ولكن بعد أن تنعم بهذه اللحظة رجاء تكلم ، فالمسافات بيننا حنجرتك و سمعي ، وأنا كلي آذان صاغية .

ـ ممتن أنا لنفسك الطويل ، و صبرك فلولاه لما كنت بين يديكِ مرة أخرى .


ـ تمت .  

الاثنين، نوفمبر 26، 2012

✿ - خريف البنفسج .




زاره االإحساس بالحنين في ليلة تتزيـّـا باكتمال القمر كقرطٍ لُجّي ، آخذاً بقلبه إلى زمان آتٍ من غربة قاسية . يــااااه كم سنة مرّت على هذا الإحساس ، وكم من أجيال ماتت و أجيال ولدت ، و أخرى ستتعاقب عليه ، الوطن وحده قادر أن يحصيها .

لم يدري لما ألح عليه ذلك الإحساس في هذا التوقيت بالذات ، دون شعور منه قادته قدماه إلى المنطقة الحدودية ، فوجد نفسه في قاعة استقبال القادمين على جسر -الملك حسين- ينظر إلى القادمين من الأرض المحتلة من خلف نظارته المكبرة ، و هم يظهرون أمامه و يختفون كالوميض دون أن يشعر بهم ، فضجيج نفسه طفا على كل الأصوات من حوله . في الأثناء أسند رأسه على مسند الكرسي في هدوء حذر لبرهة ، ثم نهض يستخرج علبة السجائر من جيب قميصه بصعوبة نتيجة اضطرابه ، و كأنه ينتظر قدوم أحدهم ، لعله في انتظار الوطن ، وقد تأخر رغم أنّ رائحته وصلت عبر المنتجات التي يحملها القادمون معهم .

دون استئذان سمح طيفها لنفسه أن يحول نظره عن كل شئ و يستقر عليها ، لا يعرفها لكنها تشبهُهُ في لون البشرة ، و الحزن ، و النظرة المترنحة ، تساءل بصوت عال على مَسْمّع من الجميع في قاعة الانتظار : " عمن تبحث يا ترى ؟ ، لعلها تبحث هي الأخر عن الوطن ، ألم يخبرها أحد أنّ الوطن لا يعبر الحدود ، أم أنها تنكر هذه الحقيقة ! " ، أخذوا ينظرون إليه بريبة  ، شعر بالحرج فغادر مسرعاً ، و وجهُهُا يغيب في حومة من التعابير الغامضة ؛ استقل حافلة في اتجاه عَمّان ليعود أدراجه ، جلس في أول مقعد خالٍ صادفه ، فإذ بها تجلس على بعد خطوتين منه ، راح يفكر في حيلة يستجدي فيها مقص يقطع مسافة الخطوتين ، فإذ بصوت فيروز يقطع سيل أفكاره وهو ينبعث في مخملية :

في قهوة عالمفرق في موقدة و في نار
نبقى انا وحبيبي نفرشها بالأسرار 
جيت لقيت فيها عشاق اتنين صغار 
قعدوا على مقاعدنا 
سرقوا منا المشوار 

ياورق الاصفر عم نكبر عم نكبر
الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر 
بتخلص الدني ومافي غيرك يا وطني 
ياوطني *يا وطني 
بتضللك طفل صغير 

سَلبَهُ لذة أن يكون بجوارها ولو سراب ،  و غمرته لذة السفر في الوجوه و العذاب .

       -  هل أصغي إلي قلبي و أنساها ، فما هي إلا صورة لامرأة انطبعت في ذاكرتي بغمرة الإعجاب الذي يعادل الوله ، أو الشحوب !

ابتسمت ..
احتضنت عيّناهُ ابتسامتها ، و ذلك الحزن النبيل الذي يزيد وجهها سحراً و جمال . حزين هو له عينان لا تكفيانه ليطيل النظر في زهرة ندية خريفها يطرق الأبواب ، و رمقه لا يكفي لشرب هذا القدر من الجمال قبل محطة الحافلة الأخيرة ، يغمس رأسه في مجمرة التمني ، و حيرته بحر هجره الموج و تكسر ، ثم رقد لبحيرة عانقها الهَجِيّر .

-        - كيف لي أن أفصل نفسي عن حلم مسروق من واقعية الحدث ؟ لو لم أفرط في العاطفة لكنت الآن أجلس بهدوء أتأمل هذا الوجه الأنثوي الجميل ، و أنا مستمتع في حل لغز الكلمات المتقاطعة ، و لكن بعد قليل سيضرب الحنين باثنين ، و تصبح الغربة ضعفيّن ، فما بين صورتها و هذا المجاز في معنى حضورها الخافت يرقد المنفى !

توقفت الحافلة في محطتها الأخيرة ، نزلوا و استقل كل منهما حافلة أخرى ، و تفرقت بهم السبل .

مرت الأيام ..
كان يجلس في المقهى يشرب كوب شاي ، و هو يستمع لكوكبة الشرق بمزاج هادئ : " أغداً ألقاك " ، و يراقب المارة في الشارع الذي بدأ يستولي عليه الليل ليبرز أنوار مبعثرة من أعمدة النور ، أفاق من شروده نتيجة تعثر أحدهم بأحد الكراسي ، التفت إليه فإذ بوجهها الصبوح يرتسم أمامه كأنه فَرّ من حلم سعيد ، رآها من جديد ، بات متيقناً أنها هي فعلاً ، و اكتفى بشرب الشاي و التدخين بعمق .

- ربما هي على موعد معي ، و أنا نسيت الأمر !

وجودها يستعجل ربيعه ليورق بنفسج ، كما يستعجلها الرحيل ، وهو إما أن يقاوم جيوش البنفسج و يمنعها من الرحيل ، أو أن يرفع رايات استسلامه !

توقف الوقت قليلاً ..
" سأبقيكِ إلى الأبد معي " همس بتلك الكلمات وهو ينظر إلى ظهرها المغادر ، لم تكن مغادرتها شيئاً غريب ، لكن قلبه هذه المرة أحس بغضة ألم رؤية اليهود يتجهزون بأحذية الجلد اللامعة ليدوسوا تراب فلسطين ، وهم يلبسون خوذ الحديد الموشاة بحروف النصر .

تبتعد عن عيناه أكثر و أكثر ، و كأنها تعلن الرحيل الأبدي ، اختفاءها في الأفق يشبه انحسار الجيوش العربية ، و يجسد تاريخهم الأسود . لحق بها و هو يغتال هزائم العرب المتتابعة في القضاء على البلاء الإسرائيلي الذي أصاب جزءا من وطنهم الكبير .

كان قريباً جداً منها ، فاجأها بيده تمتد نحوها بحنان .

-       - لا أطلب منكِ أكثر من أن أبقى بجانبك فقط ، بحثت عن ابتسامتك كثيرا في وجوه النساء اللواتي التقيتهنّ ، ومن لم ألتقي بهن بعد !

حدقت به كأنها أزرار بنفسج تتفتح ، شعر بتناغم مذهل في الصوت و اللكنة في لغة التخاطب بينهما .
-        - بحثت عن دفء أنفاسكَ كثيراً ، تشرين عَمّان بارد جداً ، كنت أضن أن الدفء كامن في أحضان الضفة الأخرى لم أكن أدري أن له نسخة ثانية قبل اليوم !

ارتشف ابتسامتها التي أمست خجولة في أحضانه بنهم ، و أقسم أنه لن يتركها تضيع مجدداً .. أبداً .


- تمت


Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites