كان يرسم انكسارات فؤاده
بأدوات الغياب الهندسي كمحاولة جادة منه لنسيان طيوره المهاجره ، و أشكال محبتهم المضلعة
، و كيف كانوا بداخله قبل رحيلهم المفاجئ . بقع خوف مستريب ممزوجة بالسخام تتناثر
داخل فنجان من القهوة المرير كأنها من صنع فنان ، و كانت كل الذكريات تتهاوى أمام
النسيان .
شعر بالضيق ، فخرج على غير
هدى ، حملته قدماه إلى مقهى في طرف المدينة . وما أن أستقر على المكوث طلب من النادل فنجان قهوة . مر وقت و لم يرتشف
منه رشفة ، و اكتفى بالغرق في مقعده ، و افتراس الوجوه التي كساها
الشحوب . كل غارق في أحزانه ، في منفاه ، أو في كتاب يفصح عن هزيمته . العيون
الذابلة تنظر إلى اللاشئ في فضاء يضج بسخرية الزمان ، و تراكمات الأيــام من
الهموم المكدسة على الكراسي المتناثرة حول الطاولات في المكان ، و همهمات تتصاعد و تخبو على
شكل موسيقى غامضة تتجاوب مع زفرات تنفث دخان المحبطين و هم يمتصون بعضاً من همٍّ
راقد في قعر السجائر ، و قرقعة الأراجيل و هي تعزف لحن الوجع كاولكسترا دامسة تشعل
جمرات الحنين تحرق الصدور ، و تحترق .
و بينما يستعيد ذات
الحكاية مرة تلو الأخرى غير مستمتع بالمفارقة بين زير النساء المتهور الذي طوّف في
جهات الدنيا الأربعة ، فكان له في كل ميناء امرأة ، و بين العاشق الأبله الذي خرج
من عالم العشاق ظافراً ، مهزوماً ، متردداً لا يجرؤ على إلقاء تحية الصباح على
فتاته . استوقفه مشهد سيدة تجلس على طاولة مزدوجة بمفردها ، تخاطب الكرسي الفارغ
المواجه لها متأملاً ، و مستغرباً ، و متسائلاً : " ما الذي تفعله هذه السيدة
؟ " .
تضاريس وجهها تخفي وراءها
كبت وقسوة زمان ظالم ، و فنجان القهوة يأخذ مكانه بجوارها بتواضع يبعث على الحزن . توهم أنّها مصابة
بالشُزوفينيا ، أو فقدت عقلها لسبب ما . قال في نفسه : " الأمر لا
يعنيني ، فلست أكثر من عابر سبيل . " ، بعدما رمقته بنظرة مهددة . لم يكن
يتخيل لبرهة أنّ تلك السيدة تملك موهبة مختلفة و غربية ، و هي قراءة أفكار الآخرين .
اقتربت منه ، قالت :
" قد تكون الآن تحدث نفسك ، و تصفني بالجنون ، لست مفصومة الشخصية يا عزيزي ،
ولكن كثيراً ما يأتي الإنسان لحظات يتيه فيها ، و ينقسم على ذاته ، و يخيل له أنه
يحاور شخصاً أخر ، وفي الأصل هو يحدث عقله الباطن . أنا هكذا آتي إلى هنا كلما ضاق صدري ، و أقضي
الليل كله في استرجاع ذكريات مضى عليها زمان طويل ، و أخاطب خيالي مكتفية بالراحة
التي أجنيها من حديث النفس لنفس . "
غمره ارتباك ، و أحس أنها
تنتظر الكلمات التي ستخرج من فمه . رفع لها يده بإيماء أن تتفضل بالجلوس ، و نادى
النادل لتطلب شيئاً .
ـ أوما تقلقكِ نظرات الناس ؟
تفحصته كأنها مستغربة من
سذاجة السؤال .
ـ لا ، هؤلاء الناس الذين تتحدث عنهم لا
يدركون الراحة النابعة من حديث النفس لنفس ، وهم ليسوا مثلي على أيّ حال . لهم
عالهم الخاص الذي يقيده البرستيج ، و لي عالمي الذي أمارس فيه رياضة امتطاء جواد
النرجسية .
أحس بحميميّة غريبة نحوها
جعلته يشعر أن هذه السيدة زادت من كمية القهر التي ضاق صدره بها ، و صارت تسيل منه
إلى حواف الطاولة .
*
تبسمت فجأة فتغير كل شيء
في المقهى ، دبت الحياة في الجماد ، وعادت الألوان إلى الوجوه الشاحبة ، و إلى
الصور الباهتة ، حتى الثريات المتدلية من السقف أوشكت أن تتحول إلى أغصان عريشة
مزركشة بالعناقيد ، كل هذا حدث أمامه في لحظة واحدة ؛ لحظة أنّ ولجت إلى عينيه
ابتسامتها كفراشة ملونة حبلى بربيع صاخب . تحيل الجحيم إلى جنة بمجرد حلولها فيه .
ارتعش فسرت فيه روح خفيفة كادت أن تجعله يتنفس .
بدأت تسترسل في الحديث ، و تفرض حضورها الصاخب البهيج ، تماحك ، تطيل المساومة
، و تقرع آذانه بقصص عجيبة مرت بها في مشوار حياتها ، عن فشلها في مستهل العشق ،
وكيف تجاوزت ذلك الفشل ، عن الوطن ، و الانتفاضة ، و ذكريات النضال التي اختزلها
كل من عاش تلك الأيام ، كان متابع لحديثها بشهية مفتوحة عن آخرها ، فمثل ذلك
الحديث يخفف عنه ، و يسليه . لم تتوقف عن الكلام ، فقد أخذت من الغربة ، و الوحدة
التي يعيشها كلٌّ منهما مادة يتغذى عليها الحديث حتى آن موعد الانصراف . فقد أخذوا
بالحديث العابر كل المساء قبل أن تكتشفهم زوابع القدر ، و تثور .
ـ هل راح النهار ؟
ـ أجل ، لقد غادر منذ زمن .
ـ على ما يبدو يومي يرفض أن يسدل ستارته .
لقد أثقلت عليكِ بثرثرتي ، أعذرني .
تنفست الصعداء كأنها فراشة أو ريشة تحملها الريح ، و همّت
بالنهوض شاكرة سعة صدره ، وهي تقول : " لم يبقى في المقهى سوانا ، و بقية
هموم جريحة . "
دفع لنادل حساب الطاولة ، و طلب أن يوصلها .
ـ الوقت تأخر ، هذه الليلة معتمة و غامضة !
- أجل !
- أجل !
*
لم يجرؤ على طلب رقم هاتفها ، ولا حتى سؤالها عن اسمها ، أو أيّ معلومة تجمعه بها مرة أخرى ، ربما لأنه ملسوع القلب . وقف خارج المقهى يسترق السمع من السماء ، هناك أصوات كثيرة تهمهم بالوداع ، و هو يراقب سيارتها و هي تبتعد ، و تبتعد ، و تصغر ، و تضمحل .
دموعه تتلألأ في مآقي الماضي
، و تطغى على الأجواء المشبعة بالأضواء تعيد ذكرى الرحيل ، و تفتته كشظايا بلور رياح
عابرة من جانبه تحمل عطراً سقط في قعر القلب لهيباً يصهره ، و يعيده إلى جحيم ذكريات
نجت من حياة سابقة ، و يمضي كما جاء عابر سبيل لا يمكن استبقاءه مهما قُدم له من
مغريات .
ـ تمت .