الأحد، ديسمبر 16، 2012

✿ - في المقهى عابر سبيل | قصة قصيرة .




كان يرسم انكسارات فؤاده بأدوات الغياب الهندسي كمحاولة جادة منه لنسيان طيوره المهاجره ، و أشكال محبتهم المضلعة ، و كيف كانوا بداخله قبل رحيلهم المفاجئ . بقع خوف مستريب ممزوجة بالسخام تتناثر داخل فنجان من القهوة المرير كأنها من صنع فنان ، و كانت كل الذكريات تتهاوى أمام النسيان .

شعر بالضيق ، فخرج على غير هدى ، حملته قدماه إلى مقهى في طرف المدينة . وما أن أستقر على المكوث طلب من النادل فنجان قهوة . مر وقت و لم يرتشف منه رشفة ، و اكتفى بالغرق في مقعده ، و افتراس الوجوه التي كساها الشحوب . كل غارق في أحزانه ، في منفاه ، أو في كتاب يفصح عن هزيمته . العيون الذابلة تنظر إلى اللاشئ في فضاء يضج بسخرية الزمان ، و تراكمات الأيــام من الهموم المكدسة على الكراسي المتناثرة حول الطاولات في المكان ، و همهمات تتصاعد و تخبو على شكل موسيقى غامضة تتجاوب مع زفرات تنفث دخان المحبطين و هم يمتصون بعضاً من همٍّ راقد في قعر السجائر ، و قرقعة الأراجيل و هي تعزف لحن الوجع كاولكسترا دامسة تشعل جمرات الحنين تحرق الصدور ، و تحترق .

و بينما يستعيد ذات الحكاية مرة تلو الأخرى غير مستمتع بالمفارقة بين زير النساء المتهور الذي طوّف في جهات الدنيا الأربعة ، فكان له في كل ميناء امرأة ، و بين العاشق الأبله الذي خرج من عالم العشاق ظافراً ، مهزوماً ، متردداً لا يجرؤ على إلقاء تحية الصباح على فتاته . استوقفه مشهد سيدة تجلس على طاولة مزدوجة بمفردها ، تخاطب الكرسي الفارغ المواجه لها متأملاً ، و مستغرباً ، و متسائلاً : " ما الذي تفعله هذه السيدة ؟ " .

تضاريس وجهها تخفي وراءها كبت وقسوة زمان ظالم ، و فنجان القهوة يأخذ مكانه بجوارها بتواضع يبعث على الحزن . توهم أنّها مصابة بالشُزوفينيا ، أو فقدت عقلها لسبب ما . قال في نفسه : " الأمر لا يعنيني ، فلست أكثر من عابر سبيل . " ، بعدما رمقته بنظرة مهددة . لم يكن يتخيل لبرهة أنّ تلك السيدة تملك موهبة مختلفة و غربية ، و هي قراءة أفكار الآخرين .

اقتربت منه ، قالت : " قد تكون الآن تحدث نفسك ، و تصفني بالجنون ، لست مفصومة الشخصية يا عزيزي ، ولكن كثيراً ما يأتي الإنسان لحظات يتيه فيها ، و ينقسم على ذاته ، و يخيل له أنه يحاور شخصاً أخر ، وفي الأصل هو يحدث عقله الباطن . أنا هكذا آتي إلى هنا كلما ضاق صدري ، و أقضي الليل كله في استرجاع ذكريات مضى عليها زمان طويل ، و أخاطب خيالي مكتفية بالراحة التي أجنيها من حديث النفس لنفس  . "

غمره ارتباك ، و أحس أنها تنتظر الكلمات التي ستخرج من فمه . رفع لها يده بإيماء أن تتفضل بالجلوس ، و نادى النادل لتطلب شيئاً .

ـ  أوما تقلقكِ نظرات الناس ؟

تفحصته كأنها مستغربة من سذاجة السؤال .

ـ لا ، هؤلاء الناس الذين تتحدث عنهم لا يدركون الراحة النابعة من حديث النفس لنفس ، وهم ليسوا مثلي على أيّ حال . لهم عالهم الخاص الذي يقيده البرستيج ، و لي عالمي الذي أمارس فيه رياضة امتطاء جواد النرجسية .

أحس بحميميّة غريبة نحوها جعلته يشعر أن هذه السيدة زادت من كمية القهر التي ضاق صدره بها ، و صارت تسيل منه إلى حواف الطاولة .

*

تبسمت فجأة فتغير كل شيء في المقهى ، دبت الحياة في الجماد ، وعادت الألوان إلى الوجوه الشاحبة ، و إلى الصور الباهتة ، حتى الثريات المتدلية من السقف أوشكت أن تتحول إلى أغصان عريشة مزركشة بالعناقيد ، كل هذا حدث أمامه في لحظة واحدة ؛ لحظة أنّ ولجت إلى عينيه ابتسامتها كفراشة ملونة حبلى بربيع صاخب . تحيل الجحيم إلى جنة بمجرد حلولها فيه . ارتعش فسرت فيه روح خفيفة كادت أن تجعله يتنفس .

بدأت تسترسل في الحديث ،  و تفرض حضورها الصاخب البهيج ، تماحك ، تطيل المساومة ، و تقرع آذانه بقصص عجيبة مرت بها في مشوار حياتها ، عن فشلها في مستهل العشق ، وكيف تجاوزت ذلك الفشل ، عن الوطن ، و الانتفاضة ، و ذكريات النضال التي اختزلها كل من عاش تلك الأيام ، كان متابع لحديثها بشهية مفتوحة عن آخرها ، فمثل ذلك الحديث يخفف عنه ، و يسليه . لم تتوقف عن الكلام ، فقد أخذت من الغربة ، و الوحدة التي يعيشها كلٌّ منهما مادة يتغذى عليها الحديث حتى آن موعد الانصراف . فقد أخذوا بالحديث العابر كل المساء قبل أن تكتشفهم زوابع القدر ، و تثور .

ـ هل راح النهار ؟

ـ أجل ، لقد غادر منذ زمن .

ـ على ما يبدو يومي يرفض أن يسدل ستارته . لقد أثقلت عليكِ بثرثرتي ، أعذرني .

تنفست الصعداء  كأنها فراشة أو ريشة تحملها الريح ، و همّت بالنهوض شاكرة سعة صدره ، وهي تقول : " لم يبقى في المقهى سوانا ، و بقية هموم جريحة . "

دفع لنادل حساب الطاولة ، و طلب أن يوصلها .

ـ الوقت تأخر ، هذه الليلة معتمة و غامضة !
- أجل !


*

لم يجرؤ على طلب رقم هاتفها ، ولا حتى سؤالها عن اسمها ، أو أيّ معلومة تجمعه بها مرة أخرى ، ربما لأنه ملسوع القلب . وقف خارج المقهى يسترق السمع من السماء ، هناك أصوات كثيرة تهمهم بالوداع ، و هو يراقب سيارتها و هي تبتعد ، و تبتعد ، و تصغر ، و تضمحل .

 دموعه تتلألأ في مآقي الماضي ، و تطغى على الأجواء المشبعة بالأضواء تعيد ذكرى الرحيل ، و تفتته كشظايا بلور رياح عابرة من جانبه تحمل عطراً سقط في قعر القلب لهيباً يصهره ، و يعيده إلى جحيم ذكريات نجت من حياة سابقة ، و يمضي كما جاء عابر سبيل لا يمكن استبقاءه مهما قُدم له من مغريات .  


ـ تمت . 

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites