الجمعة، يناير 04، 2013

✿ - أحلام المتسولة الصغيرة | قصة قصيرة .


طفلة صغيرة لم تتجاوز من العُمر الستُ سنوات ، جالسة على الرصيف في هذا الوقت من السنة - شديد البرودة - . تحاول عبثاً أن تتملص من سجن ملابسها الرثة ، ومهنتها المُهيّنة بإغماض عينيها ، و السفر بأحلامها لعالم الحكايات ، و قد تتخيل نفسها على مقاعد الدراسة التي لم يسنح لها فقرها بأن تكون أحد مرتاديها كباقي الأطفال . يعتلي وجهها تبَسمٌ مُحزن ، تشعر من خلاله بأمواج الألم وقد اجتاحت نفساً طازجة تتسكع بين دروب الفقر المدقع بدون أدنى رحمة ، ولا شفقة .

ربما لمزيد من طقوس المتسولين في استجداء العطف شفتاها تنضحان بكلمات توسل خافتة لم أسمع منها سوى العبارة الآثيرة لديهم : " من مال الله .. " . لا شك من أنها كباقي معشر المتسولين جثة من طين و روح لا أكثر ، خلت أجسادهم من الشعور ،و إلا ما الذي يُمكن طفلة صغير تجري الدماء في عروقها أن تتحمل هذا البرد القارص ، أو حتى السكون بهذا الشكل في مكانها كمجسم من دون مشاعر أو عاطفة ؟؟؟

ـ ما بالُ تلك الدموع التائهة تبحث عن مستقر تدفن فيه مجرى البلل فوق وجنتيّكِ يا صغيرة الجسد ، قبل ثوانٍ كنتٍ مجرد مجسم خالٍ من الأحساس ، أعليّ أن أصدق تلك الدموع أم أنها تتمة طقوسها في محاولات ترويض الأفئدة العابرة ، و الجيوب التي هي لقوة العطف خاضعة ؟؟ 

إقشعر بدني ، وكل شعرة في جسدي تصدح " ما ذنبها ، و أيّ جرم ارتكبته في هذه الحياة تلك الطفلة ؟ " و نظراتي تلتهمها بشراهة ، و مخيلتي تحاول تخمين قصتها و مستقبلها في خاتمة يومها ، و تتجاوزه لعشر أعوام قادمة . شعرت بخلايا إنسانيتي تتضور جوعاً ، و أمامها طبق من شعور سام يشتهيه ضميري ، آلا وهو التعاطف .

ـ كيف لنا أن نسأل عن تلك الطفلة غذاً وهي راقصة ، أو ساقطة ، أو لعلها لأنواع المخدرات مدمنة، أو وهي تواصل مهنة التسول ؟؟ فهي كالسمكة الصغيرة يلتهمها من هُمّ أكبر منها ! 

أيـام متتالية مرت تغير فيها كل ما يمكن تغييره ، إلا هي بقيت و لوقت طويل بنفس الوضعية ، بنفس الملامح التي بدأت التعاسة و الفقر تنهش براءتها ، و بقيت رهيّن نافذة غرفتي أراقبها من خلف الزجاج و الستائر الشفافة لأشبع فضولي الغريزي .

ـ هذا الركن قضاءها و قدرها ، أم أنه إرث ورثته عن سلفها من متسول تربطها به روابط الدم ، أو  لعلها روابط البؤس و الفقر !

أخيراً سمعت لنداءات ضمير التي كسرت حواجز اللامبالاة و التناسي لأعانق تلك الصغيرة بعاطفة جياشة ، سألتها عن خلاصة حياتها ، اعترتني رعشة مفاجئة ، و أنـا مصغي لحديثها ، صدمتني حكمتها و عمق كلامها الذي ينم عن عجوز خاضت معترك الحياة و جابهت قصوتها على هيئة طفلة ، قالت : " أنـا الفقيرة التي تملك - قطيعاً من الأحلام - و دعوة صادقة تهش فيها البرد في الشتاء ، و حرارة الشمس في الصيف ، أخالط المارة ، و أعبر الطرقات حافية القدمين ، منكوشة الشعر ، و تحلم بفستان تلك الأميرة ؛ وفي المساء بعد مشقة و عناء أنظم إلى كتيفة البؤساء ، وأشاركهم الليل و البكاء ، ثم أعود في الصباح إلى زمهرير البرد أو قيظ الحر بكل رجاء لأعيد ذات المشهد بغباء . أنــا لا أحب التسول يا عم ، و أكره مهانتها ، ولكن ما باليد حيلة . كل يوم أخبر جدتي العجوز طريحة فراش المرض بجديد أحلامي فترد : " إن لم تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن لا تحزني يا صغيرتي ، و استمري ! "  . مع هذا أحلامي على الدوام كوابيس تنذرني بنهاية بائعة الكبريت " .



تمت .

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites