الخميس، ديسمبر 13، 2012

✿ - سيد فؤدي اقترب | قصة قصيرة .




أوشك الليل أن ينتهي و هي لا تزال تلعب بخُصل أحلامها المتدلية على أكتاف يقظتها ، هاربة من شبح الفقد و الوحدة الصاخبة ، فلا أحد يشعر بالوحدة أو يسمع قرع طبولها إلا من خلت حياته من الونس ، تبحث عن مخرج لما هي فيه ، فتجد ضالتها بنسج القصائد التي تفتح لها أبواب مدنٍ تحلم بزيارتها برفقة فارس قادم من العصور المنصرمة ، تتجول فيها حتى الصباح وهي تسرد لفارسها الحكايات عن بعد ، ثم تعود لأحلامها منتشية ، تعانق وسادتها و تنام .

حين تستيقظ تجد نفسها غارقة في كومة من الأوراق المكورة ، و قد عانقت صفوفاً مرصوصة من كلمات و سطور كتبت بلغة غيرة صالحة للقراءة ، تحمل هلوسة ليلها قبل أن تُولد على يديها قصيدة جديدة ، دائماً تقول : " أنا شاعرة تولد من فوضويتها الأشعار ! " .

بالإضافة إلى ملكة الشعر مهووسة بالفن التشكيلي منذ صغر سنها ، حبها بهذا الفن الراقي و ولعها به جعلها تزور كل المعارض التي تقام في مدينتها .

وصلت إلى القاعة ، قليل من الموسيقى ترافق خطوات الزوار  الهادئة ، بدأت تتجول بين اللوحات و كأنها تبحث عن شئ ضاع منها منذ سنين ، تعقد الخطوة بين اللوحات ، و تمضي و قتاً ليس بالقصير في تأملها ، انتابتها حالات تظل فيها مساهمة مفكرة ، شعرت بالألوان التي تطرطش كل اللوحات تحمل نكهتها ، تحمل جزءاً منها ، و بينما كانت شاردة الذهن قاطعها :

ـ تشرفت بحضوركِ سيدتي .

ـ زادكَ الله شرفاً ، المعرض جميل و الموسيقى المنبعثة أجمل ؛ لكني شعرت بأمر غريب في لوحاتك .. أتعلم لو كان لها لسان يتكلم لرددت بعض قصائدي .

ـ لعل هذا ما يسمونه توارد الخواطر .

ـ أنا عاشقة لهذا الفن منذ نعومة اظفري ، و دائماً حريصة كل الحرص على حضور المعارض التي تقام هنا و هناك ، فلا توجد لوحة إلا و كانت حكايتها و تاريخها حاضراً في مخيلتي ، لكنها المرة الأولى التي استشعر فيها بهذا القُرب بين اللوحات و بيني .

نظر إليها و إذا بها محدقة في معالم اللوحات سارحة في خيالها و قد غلبت عليها الحيرة ، و بعض القلق بدى على ملامحها .

ـ في العادة تتكون في عقلي القصيدة بعد مغادرتي إحدى المعارض ، و لكن هذه المرة سبقتني قصائدي إلى هُنا ، تسللت من خلال الألوان ، تجسدت في ملامح المكان !

بدت عليه الابتسامة الخفيفة و هو ينظر إليها ، فإذ بصوتٍ يقاطع همسها و يناديه : " أستاذ .. ممكن لحظة ؟ " ، استأذن و غادر ببطء .

وقفت ككل خلق الله في المكان تتابع حركات ذراعيه ، و هو يستعرض لحملقة الجموع ضربات فرشاته . طوال الوقت كان نظره معلقاً بها ، يرافق حركاتها و يتجول معها إلى أن غادرت تاركة له عطرها سارحاً بين أنفاسه ، كأنها قد أبقته له ذكرى مخلفة وراءها رجلاً وحيداً يجد في دواوينها عالماً مزدحماً لا ملل فيه ولا سكون ، تذوب كلماتها في دمه ذوبان قطعة السكر في فنجان قهوته ، فترتسم سمرة وجهها الجميل ، و ملامحها ، و يحلق في دخان سجائره دون أن يعرف إلى أين .

كان جالساً أمام فنجانه يقرأ إحدى قصائدها : "سيد فؤادي أقترب " 
يرن جرس الهاتف ليقطع بقسوة يد أفكاره التي تكالبت على جلده وقتاً طويل ، يملأ رنينه خواء روحه حضوراً و ألفة .

ـ ألــو ..

ـ ألــو ، كيف حالك ؟ معك الشاعرة سلام حاتم ، اخترت إحدى لوحاتك لتكون غلاف لديواني الجديد ، اتصلت بكَ لتحديد موعد لإتمام الأمر . 

يأخذهُ صوتها ، يتسرب إلى أعماقه كماء بارد يريد شربه ليبلل عطشه الحارق بالنبرة الشادية ، و تتغلغل النبرة في كل جزء من أجزاء جسده ، و تطفي حرقة أشواقه ، تأخذه النشوة ليرتسم صوتها أمامه حياة يريد أن يعيشها عن قرب ، لحناً يريد عزفه لا أنّ يسمعه فقط ! 

ـ كل لوحاتي على حسابك ، و أنا رهن أمرك .

اندفع صوته و كأنه صوت كر صخور سقطت من مكان عالي ، بدا متشنج و مشدود بشكل يثير الشفقة ، كادت حباله أنّ تنقطع .
    

ـ متى سنلتقي ؟
ـ وقتما تشائين !
ـ أيناسبكَ يوم غد الساعة الثانية بعد الظهر ؟
ـ على موعدنا إذاً .

انتهت المكالمة بلطف ، و بقي صوتها رحلة مجهولة لا تجد فيها أقدامه فرصة للرجوع ، أقدامه مخدرة تتقدم ثم تتراجع لتطفي جلبة مضافة لفراغ الغرفة ، خطوة للأمام و خطوة للوراء ، و بين الخطوة و الأخرى لحظة يدرك فيها قلبه صوتها ، وفي الجانب الأخر صوت أنفاسها التواقة لاستجابة ما تدلف إلى رأسه دون دعوة ، ترسل له قصائدها أنيناً متقطع تخاله فرحا ً مبتوراً ، و أحلاماً غير منجزة تضيف إلى ألوانه حساً جديد يتحول إلى شوق ، شوق الموعد .. شوق اللقاء .. و نبرة صوت كأنه شربة من كأس الخلود .عاد لفنجان قهوته و شوقه يغني للغد " أغداً ألقاك ! " . 

ـ لو كان هذا حلماً لأفقت منه ، ولكنه واقعاً ممزوجاً بانتظار لذيذ مجبول بشوق يزداد كل لحظة ، و يكبر .


ساعة اللقاء ..
تفصله عن الثانية بعد الظهر لحظة التأكد أن عيونه لا تزال في محاجرها ، و كلماته التي يريدها أزهى   ما تكون بحوزته ، و في لحظة تحول اللقاء من لقاء عمل إلى لقاء غرامي

ـ على وقع كلماتك الألوان تغزف ، و المشاعر تغني ، كوني أنتِ لحني الخالد .

ـ يخالج ألوانك بعضي ، فتنضج لوحاتك ، ألم تخبرك قصائدي قبلاً أني سأرتسم أمامك يوماً ما لأكون حقاً المرأة المتجلية وراء أعظم يد تمسك الريشة و تلهو بالألوان .

ـ جعلتي قلبي يرفرف من أول حرف كما يرفرف الآن .. من أنتي ؟ هل أنتي أميرة أحلامي أم أنتي القصيدة ؟

ـ لست مجرد قصيدة تعيشها لدقائق ، ولا لوحة تسهرك الليل و تنتهي بأخر ضربة لفرشاتك ، أنا أمامك الآن حكاية لا أتمنى أن تنتهي ، ترافقك كابتسامة أبدية حفرت معالمها في ملامحك ، و ثنايا الجلد على وجهك يلفاها كل من ينظر إليك .

مرت الأيــام و السنين ..
غادر الفنان العظيم بعد أن أهدته إلهامه ، فتميز و سطع نجمه في العالم أجمع بوقت قياسي يحمل فرشاته ، و جواز سفره ، و قلبها معه ، يتنقل بين البلدان بدون أن يفكر بالرجعة.

حملها له الزمان على بساط الصدفة البحتة  ، و وضعها أمامه من جديد ، ابتسامة لا تجلي فرحها ، عيون لا يقدر على قراءة ما سُطر فيها من قصائد ، اشتعلت نيران قلبه العابس بتعالٍ ، و عندما بدء بطرح الأسئلة لم يجد سوى محيط مفتوح على سماء لا نهاية لها ، توقف أخيراً عن الأسئلة السمجة ، و وجد نفسه يلبي نداءاً تبعثه عيناها لينقضها من قلق لا مبرر ، و خوف خاوٍ من محتواه . الوقت غير ملائم للأسئلة و لا للأجوبة ، لعله لم يدرك بعد عمق الجرح الذي تركه انسحابه عندما وصلا إلى ذروة العشق ، تتحول الشفاه الرقيقة إلى خشب ، و رسائل الأميرة إلى فارسها تتحول إلى أصابع اتهام ، و سوفاً و رماح .

ـ آذيتني بصمتك لكنكِ لستِ بحاجة للحديث ما دام لكِ عينان تثرثران بما أبحث عنه من أجوبة .

ـ لو تعلم كم من العمر سرقت ، كم من حرفٍ أبكت ، وضعتك في قلب كلماتي المذبوح ، فما عدت أذكر كيف كان الشعر قبلك ، كل قصائدي تمر من خلالك قبل أن تقرأها عيني ، تتدافع في صدري شارعة السيوف لتدافع عني أمام جيوش غيابك ، فهي أكثر عنفاً من جيوش رتشارد قلب الأسد ، و أكثر منها خراباً في معركة تلاحمت فيها المشاعر و حبك العقيم .

يعلم بانتظارها الدائم له طوال السنين الماضيات ، و استكثر عليها هذا اللقاء . لم تدرك كيف أفلت يده من قبضتها ، شعرت من انفلاتها بثقل خطواتها ، و بطء المسير ، شعرت بأن الأرض توقفت عن الدوران ، و بأن الحياة توقفت ، شعرت أن العشق ساحة معبأة بالوجع المكثف ، ضاع منها الكلام وراء ستار من الدموع يمتزج بحسرة غريبة .

راحت تبحث عن فراشة ذاتها لتتأكد من أنها لا تزال قادرة على الطيران ، فدائماً كانت هي الشمس و كان هو الغيمة التي تحاول حجب الشمس . من لهيبها امتصت جناحيها القوة فطارت ، و على قلبه حطت قصيدة تبحث عن فاصلة زمنية ليقف عندها .

ـ كلانا يا عزيزي بحاجة للحظة هدوء تحسم بعدها الأمور ، ولكن بعد أن تنعم بهذه اللحظة رجاء تكلم ، فالمسافات بيننا حنجرتك و سمعي ، وأنا كلي آذان صاغية .

ـ ممتن أنا لنفسك الطويل ، و صبرك فلولاه لما كنت بين يديكِ مرة أخرى .


ـ تمت .  

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites