أوشك الليل أن ينتهي و هي
لا تزال تلعب بخُصل أحلامها المتدلية على أكتاف يقظتها ، هاربة من شبح
الفقد و الوحدة الصاخبة ، فلا أحد يشعر بالوحدة أو يسمع قرع طبولها إلا من خلت
حياته من الونس ، تبحث عن مخرج لما هي فيه ، فتجد ضالتها بنسج القصائد التي تفتح
لها أبواب مدنٍ تحلم بزيارتها برفقة فارس قادم من العصور المنصرمة ، تتجول فيها
حتى الصباح وهي تسرد لفارسها الحكايات عن بعد ، ثم تعود لأحلامها منتشية ، تعانق
وسادتها و تنام .
حين تستيقظ تجد نفسها
غارقة في كومة من الأوراق المكورة ، و قد عانقت صفوفاً مرصوصة من كلمات و سطور
كتبت بلغة غيرة صالحة للقراءة ، تحمل هلوسة ليلها قبل أن تُولد على يديها قصيدة
جديدة ، دائماً تقول : " أنا شاعرة تولد من فوضويتها الأشعار ! " .
بالإضافة إلى ملكة الشعر
مهووسة بالفن التشكيلي منذ صغر سنها ، حبها بهذا الفن الراقي و ولعها به جعلها
تزور كل المعارض التي تقام في مدينتها .
وصلت إلى القاعة ، قليل من
الموسيقى ترافق خطوات الزوار الهادئة ، بدأت تتجول بين اللوحات و كأنها تبحث
عن شئ ضاع منها منذ سنين ، تعقد الخطوة بين اللوحات ، و تمضي و قتاً ليس بالقصير
في تأملها ، انتابتها حالات تظل فيها مساهمة مفكرة ، شعرت بالألوان التي تطرطش كل
اللوحات تحمل نكهتها ، تحمل جزءاً منها ، و بينما كانت شاردة الذهن قاطعها :
ـ تشرفت بحضوركِ سيدتي .
ـ زادكَ الله شرفاً ، المعرض جميل و الموسيقى
المنبعثة أجمل ؛ لكني شعرت بأمر غريب في لوحاتك .. أتعلم لو كان لها لسان يتكلم
لرددت بعض قصائدي .
ـ لعل هذا ما يسمونه توارد الخواطر .
ـ أنا عاشقة لهذا الفن منذ نعومة اظفري ، و
دائماً حريصة كل الحرص على حضور المعارض التي تقام هنا و هناك ، فلا توجد لوحة إلا
و كانت حكايتها و تاريخها حاضراً في مخيلتي ، لكنها المرة الأولى التي استشعر فيها
بهذا القُرب بين اللوحات و بيني .
نظر إليها و إذا بها محدقة
في معالم اللوحات سارحة في خيالها و قد غلبت عليها الحيرة ، و بعض القلق بدى على
ملامحها .
ـ في العادة تتكون في عقلي القصيدة بعد
مغادرتي إحدى المعارض ، و لكن هذه المرة سبقتني قصائدي إلى هُنا ، تسللت من خلال
الألوان ، تجسدت في ملامح المكان !
بدت عليه الابتسامة
الخفيفة و هو ينظر إليها ، فإذ بصوتٍ يقاطع همسها و يناديه : " أستاذ .. ممكن
لحظة ؟ " ، استأذن و غادر ببطء .
وقفت ككل خلق الله في
المكان تتابع حركات ذراعيه ، و هو يستعرض لحملقة الجموع ضربات فرشاته . طوال الوقت
كان نظره معلقاً بها ، يرافق حركاتها و يتجول معها إلى أن غادرت تاركة له عطرها
سارحاً بين أنفاسه ، كأنها قد أبقته له ذكرى مخلفة وراءها رجلاً وحيداً يجد في
دواوينها عالماً مزدحماً لا ملل فيه ولا سكون ، تذوب كلماتها في دمه ذوبان قطعة
السكر في فنجان قهوته ، فترتسم سمرة وجهها الجميل ، و ملامحها ، و يحلق في دخان
سجائره دون أن يعرف إلى أين .
كان جالساً أمام فنجانه
يقرأ إحدى قصائدها : "سيد فؤادي أقترب "
يرن جرس الهاتف ليقطع بقسوة يد
أفكاره التي تكالبت على جلده وقتاً طويل ، يملأ رنينه خواء روحه حضوراً و ألفة .
ـ ألــو ..
ـ ألــو ، كيف حالك ؟ معك الشاعرة
سلام حاتم ، اخترت إحدى لوحاتك لتكون غلاف لديواني الجديد ، اتصلت بكَ لتحديد موعد
لإتمام الأمر .
يأخذهُ صوتها ، يتسرب إلى أعماقه
كماء بارد يريد شربه ليبلل عطشه الحارق بالنبرة الشادية ، و تتغلغل النبرة في كل
جزء من أجزاء جسده ، و تطفي حرقة أشواقه ، تأخذه النشوة ليرتسم صوتها أمامه حياة
يريد أن يعيشها عن قرب ، لحناً يريد عزفه لا أنّ يسمعه فقط !
ـ كل لوحاتي على حسابك ، و أنا
رهن أمرك .
اندفع صوته و كأنه صوت كر صخور
سقطت من مكان عالي ، بدا متشنج و مشدود بشكل يثير الشفقة ، كادت حباله أنّ تنقطع .
ـ متى سنلتقي ؟
ـ وقتما تشائين !
ـ أيناسبكَ يوم غد الساعة الثانية
بعد الظهر ؟
ـ على موعدنا إذاً .
انتهت المكالمة بلطف ، و بقي
صوتها رحلة مجهولة لا تجد فيها أقدامه فرصة للرجوع ، أقدامه مخدرة تتقدم ثم تتراجع
لتطفي جلبة مضافة لفراغ الغرفة ، خطوة للأمام و خطوة للوراء ، و بين الخطوة و
الأخرى لحظة يدرك فيها قلبه صوتها ، وفي الجانب الأخر صوت أنفاسها التواقة
لاستجابة ما تدلف إلى رأسه دون دعوة ، ترسل له قصائدها أنيناً متقطع تخاله فرحا ً
مبتوراً ، و أحلاماً غير منجزة تضيف إلى ألوانه حساً جديد يتحول إلى شوق ، شوق
الموعد .. شوق اللقاء .. و نبرة صوت كأنه شربة من كأس الخلود .عاد لفنجان قهوته و
شوقه يغني للغد " أغداً ألقاك ! " .
ـ لو كان هذا حلماً لأفقت منه ،
ولكنه واقعاً ممزوجاً بانتظار لذيذ مجبول بشوق يزداد كل لحظة ، و يكبر .
ساعة اللقاء ..
تفصله عن الثانية بعد الظهر لحظة
التأكد أن عيونه لا تزال في محاجرها ، و كلماته التي يريدها أزهى ما تكون
بحوزته ، و في لحظة تحول اللقاء من لقاء عمل إلى لقاء غرامي
ـ على وقع كلماتك الألوان تغزف ،
و المشاعر تغني ، كوني أنتِ لحني الخالد .
ـ يخالج ألوانك بعضي ، فتنضج
لوحاتك ، ألم تخبرك قصائدي قبلاً أني سأرتسم أمامك يوماً ما لأكون حقاً المرأة
المتجلية وراء أعظم يد تمسك الريشة و تلهو بالألوان .
ـ جعلتي قلبي يرفرف من أول حرف
كما يرفرف الآن .. من أنتي ؟ هل أنتي أميرة أحلامي أم أنتي القصيدة ؟
ـ لست مجرد قصيدة تعيشها لدقائق ،
ولا لوحة تسهرك الليل و تنتهي بأخر ضربة لفرشاتك ، أنا أمامك الآن حكاية لا أتمنى
أن تنتهي ، ترافقك كابتسامة أبدية حفرت معالمها في ملامحك ، و ثنايا الجلد على
وجهك يلفاها كل من ينظر إليك .
مرت الأيــام و السنين ..
غادر الفنان العظيم بعد أن أهدته
إلهامه ، فتميز و سطع نجمه في العالم أجمع بوقت قياسي يحمل فرشاته ، و جواز سفره ،
و قلبها معه ، يتنقل بين البلدان بدون أن يفكر بالرجعة.
حملها له الزمان على بساط الصدفة
البحتة ، و وضعها أمامه من جديد ، ابتسامة لا تجلي فرحها ، عيون لا يقدر على
قراءة ما سُطر فيها من قصائد ، اشتعلت نيران قلبه العابس بتعالٍ ، و عندما بدء
بطرح الأسئلة لم يجد سوى محيط مفتوح على سماء لا نهاية لها ، توقف أخيراً عن
الأسئلة السمجة ، و وجد نفسه يلبي نداءاً تبعثه عيناها لينقضها من قلق لا مبرر ، و
خوف خاوٍ من محتواه . الوقت غير ملائم للأسئلة و لا للأجوبة ، لعله لم يدرك بعد
عمق الجرح الذي تركه انسحابه عندما وصلا إلى ذروة العشق ، تتحول الشفاه الرقيقة
إلى خشب ، و رسائل الأميرة إلى فارسها تتحول إلى أصابع اتهام ، و سوفاً و رماح .
ـ آذيتني بصمتك لكنكِ لستِ بحاجة
للحديث ما دام لكِ عينان تثرثران بما أبحث عنه من أجوبة .
ـ لو تعلم كم من العمر سرقت ، كم
من حرفٍ أبكت ، وضعتك في قلب كلماتي المذبوح ، فما عدت أذكر كيف كان الشعر قبلك ،
كل قصائدي تمر من خلالك قبل أن تقرأها عيني ، تتدافع في صدري شارعة السيوف لتدافع
عني أمام جيوش غيابك ، فهي أكثر عنفاً من جيوش رتشارد قلب الأسد ، و أكثر منها
خراباً في معركة تلاحمت فيها المشاعر و حبك العقيم .
يعلم بانتظارها الدائم له طوال
السنين الماضيات ، و استكثر عليها هذا اللقاء . لم تدرك كيف أفلت يده من قبضتها ،
شعرت من انفلاتها بثقل خطواتها ، و بطء المسير ، شعرت بأن الأرض توقفت عن الدوران
، و بأن الحياة توقفت ، شعرت أن العشق ساحة معبأة بالوجع المكثف ، ضاع منها الكلام
وراء ستار من الدموع يمتزج بحسرة غريبة .
راحت تبحث عن فراشة ذاتها لتتأكد
من أنها لا تزال قادرة على الطيران ، فدائماً كانت هي الشمس و كان هو الغيمة التي
تحاول حجب الشمس . من لهيبها امتصت جناحيها القوة فطارت ، و على قلبه حطت قصيدة
تبحث عن فاصلة زمنية ليقف عندها .
ـ كلانا يا عزيزي بحاجة للحظة
هدوء تحسم بعدها الأمور ، ولكن بعد أن تنعم بهذه اللحظة رجاء تكلم ، فالمسافات
بيننا حنجرتك و سمعي ، وأنا كلي آذان صاغية .
ـ ممتن أنا لنفسك الطويل ، و صبرك
فلولاه لما كنت بين يديكِ مرة أخرى .
ـ تمت .