الاثنين، نوفمبر 26، 2012

✿ - خريف البنفسج .




زاره االإحساس بالحنين في ليلة تتزيـّـا باكتمال القمر كقرطٍ لُجّي ، آخذاً بقلبه إلى زمان آتٍ من غربة قاسية . يــااااه كم سنة مرّت على هذا الإحساس ، وكم من أجيال ماتت و أجيال ولدت ، و أخرى ستتعاقب عليه ، الوطن وحده قادر أن يحصيها .

لم يدري لما ألح عليه ذلك الإحساس في هذا التوقيت بالذات ، دون شعور منه قادته قدماه إلى المنطقة الحدودية ، فوجد نفسه في قاعة استقبال القادمين على جسر -الملك حسين- ينظر إلى القادمين من الأرض المحتلة من خلف نظارته المكبرة ، و هم يظهرون أمامه و يختفون كالوميض دون أن يشعر بهم ، فضجيج نفسه طفا على كل الأصوات من حوله . في الأثناء أسند رأسه على مسند الكرسي في هدوء حذر لبرهة ، ثم نهض يستخرج علبة السجائر من جيب قميصه بصعوبة نتيجة اضطرابه ، و كأنه ينتظر قدوم أحدهم ، لعله في انتظار الوطن ، وقد تأخر رغم أنّ رائحته وصلت عبر المنتجات التي يحملها القادمون معهم .

دون استئذان سمح طيفها لنفسه أن يحول نظره عن كل شئ و يستقر عليها ، لا يعرفها لكنها تشبهُهُ في لون البشرة ، و الحزن ، و النظرة المترنحة ، تساءل بصوت عال على مَسْمّع من الجميع في قاعة الانتظار : " عمن تبحث يا ترى ؟ ، لعلها تبحث هي الأخر عن الوطن ، ألم يخبرها أحد أنّ الوطن لا يعبر الحدود ، أم أنها تنكر هذه الحقيقة ! " ، أخذوا ينظرون إليه بريبة  ، شعر بالحرج فغادر مسرعاً ، و وجهُهُا يغيب في حومة من التعابير الغامضة ؛ استقل حافلة في اتجاه عَمّان ليعود أدراجه ، جلس في أول مقعد خالٍ صادفه ، فإذ بها تجلس على بعد خطوتين منه ، راح يفكر في حيلة يستجدي فيها مقص يقطع مسافة الخطوتين ، فإذ بصوت فيروز يقطع سيل أفكاره وهو ينبعث في مخملية :

في قهوة عالمفرق في موقدة و في نار
نبقى انا وحبيبي نفرشها بالأسرار 
جيت لقيت فيها عشاق اتنين صغار 
قعدوا على مقاعدنا 
سرقوا منا المشوار 

ياورق الاصفر عم نكبر عم نكبر
الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر 
بتخلص الدني ومافي غيرك يا وطني 
ياوطني *يا وطني 
بتضللك طفل صغير 

سَلبَهُ لذة أن يكون بجوارها ولو سراب ،  و غمرته لذة السفر في الوجوه و العذاب .

       -  هل أصغي إلي قلبي و أنساها ، فما هي إلا صورة لامرأة انطبعت في ذاكرتي بغمرة الإعجاب الذي يعادل الوله ، أو الشحوب !

ابتسمت ..
احتضنت عيّناهُ ابتسامتها ، و ذلك الحزن النبيل الذي يزيد وجهها سحراً و جمال . حزين هو له عينان لا تكفيانه ليطيل النظر في زهرة ندية خريفها يطرق الأبواب ، و رمقه لا يكفي لشرب هذا القدر من الجمال قبل محطة الحافلة الأخيرة ، يغمس رأسه في مجمرة التمني ، و حيرته بحر هجره الموج و تكسر ، ثم رقد لبحيرة عانقها الهَجِيّر .

-        - كيف لي أن أفصل نفسي عن حلم مسروق من واقعية الحدث ؟ لو لم أفرط في العاطفة لكنت الآن أجلس بهدوء أتأمل هذا الوجه الأنثوي الجميل ، و أنا مستمتع في حل لغز الكلمات المتقاطعة ، و لكن بعد قليل سيضرب الحنين باثنين ، و تصبح الغربة ضعفيّن ، فما بين صورتها و هذا المجاز في معنى حضورها الخافت يرقد المنفى !

توقفت الحافلة في محطتها الأخيرة ، نزلوا و استقل كل منهما حافلة أخرى ، و تفرقت بهم السبل .

مرت الأيام ..
كان يجلس في المقهى يشرب كوب شاي ، و هو يستمع لكوكبة الشرق بمزاج هادئ : " أغداً ألقاك " ، و يراقب المارة في الشارع الذي بدأ يستولي عليه الليل ليبرز أنوار مبعثرة من أعمدة النور ، أفاق من شروده نتيجة تعثر أحدهم بأحد الكراسي ، التفت إليه فإذ بوجهها الصبوح يرتسم أمامه كأنه فَرّ من حلم سعيد ، رآها من جديد ، بات متيقناً أنها هي فعلاً ، و اكتفى بشرب الشاي و التدخين بعمق .

- ربما هي على موعد معي ، و أنا نسيت الأمر !

وجودها يستعجل ربيعه ليورق بنفسج ، كما يستعجلها الرحيل ، وهو إما أن يقاوم جيوش البنفسج و يمنعها من الرحيل ، أو أن يرفع رايات استسلامه !

توقف الوقت قليلاً ..
" سأبقيكِ إلى الأبد معي " همس بتلك الكلمات وهو ينظر إلى ظهرها المغادر ، لم تكن مغادرتها شيئاً غريب ، لكن قلبه هذه المرة أحس بغضة ألم رؤية اليهود يتجهزون بأحذية الجلد اللامعة ليدوسوا تراب فلسطين ، وهم يلبسون خوذ الحديد الموشاة بحروف النصر .

تبتعد عن عيناه أكثر و أكثر ، و كأنها تعلن الرحيل الأبدي ، اختفاءها في الأفق يشبه انحسار الجيوش العربية ، و يجسد تاريخهم الأسود . لحق بها و هو يغتال هزائم العرب المتتابعة في القضاء على البلاء الإسرائيلي الذي أصاب جزءا من وطنهم الكبير .

كان قريباً جداً منها ، فاجأها بيده تمتد نحوها بحنان .

-       - لا أطلب منكِ أكثر من أن أبقى بجانبك فقط ، بحثت عن ابتسامتك كثيرا في وجوه النساء اللواتي التقيتهنّ ، ومن لم ألتقي بهن بعد !

حدقت به كأنها أزرار بنفسج تتفتح ، شعر بتناغم مذهل في الصوت و اللكنة في لغة التخاطب بينهما .
-        - بحثت عن دفء أنفاسكَ كثيراً ، تشرين عَمّان بارد جداً ، كنت أضن أن الدفء كامن في أحضان الضفة الأخرى لم أكن أدري أن له نسخة ثانية قبل اليوم !

ارتشف ابتسامتها التي أمست خجولة في أحضانه بنهم ، و أقسم أنه لن يتركها تضيع مجدداً .. أبداً .


- تمت


Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites